الاستدعاء المشوه للفتنة الكبرى
حادثة قيام عناصر من اسموا انفسهم (انصار الشريعة ) بذبح 14 جنديا في محافظة حضرموت، وهم بلباسهم المدني، منزوعي السلاح ، وفي طريق عودتهم الى منازلهم.. بما تحمله من نفس طائفي دلالته اعتبار قائد الارهابيين هؤلاء الجنود رافضة حوثيين.. لا تستحضر زمن الفتنة الكبرى في التاريخ المبكر للإسلام، إذ ان ارتدادات تلك الفتنة ما انفكت حاضرة تضغط بثقلها على تمفصلات الاسلام، بل هي في مقام متفرد لا تعدو الا ان تكون استدعاءا مشوها ومقززا لها.
أثناء خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بدأت بواكير الفتنة الكبرى حينما اطلق مقتله علي يد جماعة القرائين(الخوارج) شرارتها، ما حمل طائفة اخرى من المسلمين للمطالبة بدمه، والثأر له بزعامة بعض صحابة رسول الله وبتعضيد مباشر من حاكم الشام معاوية بن ابي سفيان الذي استبسل في قتال الامام علي رضي الله عنه الذي تولى الخلافة بعد مقتل عثمان ظنا بتقاعسه عن المطالبة بدم عثمان .. وباستثناء الخوارج كجماعة مؤدلجة جدا، تتغيا التفسير الحرفي للقرآن وتحقيقه واقعا دونما اعتبار لمتغيرات واقع ولا مقتضيات سياسة ، فان الصراع بين علي ومعاوية على السلطة كان سياسيا وإن جرى تغليفه دينيا، كنتاج طبيعي لكون الاسلام دعوة دينية.. دين ودولة في آن معا... ولم يعوزهما ايجاد مبررات دينية للصراع: الإمام علي في اسبقيته للإسلام، ومعاوية في مطالبة بالقصاص لعثمان، وبداهة فالقصاص من القتلة امر يوجبه الإسلام بنصوص قرآنية لا لبس فيها.. وفي هذه المرحلة المبكرة لم يكن قد تبلورت بعد أحقية آل البيت بالخلافة / الامامة التي ظهرت لاحقا في سياق تطور الحركة الشيعية.
كانت هنالك حادثتان أثمرتا أيلولة الحكم لمعاوية، الأولى حادثة التحكيم التي نزعت عن الإمام علي شرعية الخلافة بعد قيام موكله (ابي موسى الاشعري) بخلعه، بعدما وقع في خديعة موكل معاوية (عمرو بن العاص ) الذي عوضا عن ان يخلع موكله بحسب الاتفاق، خلع عليا وأثبت معاوية ما فتح الباب للأخير للمطالبة بالبيعة له واضفى الشرعية على حكمه... الا ان معركة النهروان كانت بحق الحدث الفارق في الصراع، باستتباعاتها التي أفضت لانقسام معسكر الإمام علي ومحاربته للخوارج وفقدانه لها كقوة مؤثرة، بعد رفضهم التحكيم الذي لا يكون الا لله ( ان الحكم الا لله) وفق تفسيرهم الحرفي للقرآن الكريم.. ما أدى لأن يؤول الأمر الى معاوية والسلالة الأموية .. في مفارقة ستلقى بتبعاتها على حركات الاسلام السياسي وتنتج ما تشهده من انقسام ما فتئت حاضرة حتى اليوم.. وهي ان خلافة المسلمين تحولت الى البيت الذي طالما ناصب الاسلام العداء .. وستظل مفارقة كهذه مختزنة في الذاكرة النفسية لقطاع من المسلمين، لن تمحوها حقيقة ان الاسلام يَجُّب ما قبله وما تحقق من اتساع لرقعة الدولة الاسلامية في عهد الأمويين.. وسيضاعف مقتل سبط رسول الله الحسين بن علي رضى الله عنهما على يد أتباع يزيد الفاسق اكتناز الذاكرة الشيعية بالألم والحزن المغذي لحالة العدائية والانقسام، لتخلق بدروها ردة فعل طبيعية، تعززها واقع العزلة التي فرضها الأمويين على الشيعة ودخول مؤثرات سياسية وفلسفية من الأمم السابقة للإسلام كنظرية الحق الالهي في الحكم، لتصب مخرجات هكذا مفاعيل في نشوء المطالبات بأحقية آل بيت الرسول بالخلافة دونما سائر المسلمين، فيما لا تزال جمهرة المسلمين تؤمن أن لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى وان اكرمكم عند الله اتقاكم ..
أخذ الصراع بين اكبر طائفتين اسلاميتين (السنة، الشيعة) يخبو أحيانا كثيرة، ولا يشتد الا لماما، الا انه ظل محكوما بمبادئ الإسلام واخلاق الحرب، ولا نكاد نلمح على امتداد التاريخ الاسلامي حادثة توازي في بشاعتها ما حدث للجنود في حضرموت على يد جماعة مارقة تدعي زورا الذود عن حياض الاسلام.. وتعتسف اسم الله الاجل الأعلى وشريعته وتلحقه كمسمى لجماعتها الضالة، يتساوى في ذلك (انصار الشريعة، انصار الله) .. من يذبح باسم الإسلام ومن يفجر المساجد ويسفك دماء المسلمين بذات المسمى .. فهما الاختزالان الأكثر جلاءا لارتدادات الفتنة الكبرى والاستحضار المشوه لها.. واستمرار الصراع وازدياد حدته ليس سوى مآل منطقي لانكفاء كل طائفة على ذاتها واعتقادها بصوابية مسلكها، واغلاق الباب امام الباحثين عن حقيقة ما حدث ايام الفتنة الكبرى وقبلها ما تم في سقيفة بني ساعدة، التي توجت أبي بكر رضي الله عنه أول خلفاء رسول الله....وسيظل الحديث النبوي (اختلاف امتي رحمة) مجافيا للواقع، طالما اخذ الاختلاف طابع الصراع الدامي وطالما ظل التاريخ المبكر للإسلام منطقة محضورة تحوطها هالة القداسة، حتى وان كان تتصل بصراع سياسي على سلطة زمنية لا بجوهر الدين وقدسيته.