لماذا الطريق الثالث؟
مطلع ستينيات القرن الماضي صنع اليمنيون ثورة في الشمال وأخرى في الجنوب..وفي 22 مايو 1990 تمكنوا من تدشين عملية توحيد شطري البلاد بعد قرون من التشظي..لكن نخبهم السياسية فشلت في تأسيس دولة تحقق لهم الاستقرار السياسي من خلال الشراكة في السلطة والعدالة في توزيع الثروة، وتؤمن لهم شروط تنمية شاملة ومستدامة..والفشل في تأسيس الدولة ألقى بظلاله الكثيفة على الثورة وعلى الوحدة وعلى التنمية فأصبحوا فاشلين في الثلاث..ومعظم الخمسين عاما الماضية ذهب في صراعات وحروب ظلت تتغذى بشعارات الثورة تارة والوحدة تارة أخرى..ومن خبرة السنوات التي تلت حرب 1994 تبين أن منطق الدولة كان غائبا عن مقدمات تلك الحرب ونتائجها، وأنها لم ترسخ الوحدة بين الجنوب والشمال، وإنما دمرتها ونقلت الحدود الشطرية السابقة من الجغرافيا إلى النفوس، وفتحت الباب على مصراعيه للمشاريع الصغيرة – شمالا وجنوبا - على حساب المشروع الوطني الكبير الذي آل إلى دولة هشة ونظام سياسي جامد يرفض ويقاوم ويخوِّن كل دعوات الإصلاح، الأمر الذي أفضى بالضرورة إلى مراكمة شروط أزمة سياسية وصلت إلى الذروة مطلع عام 2011..وفي هذه اللحظة إستلهمت فئة الشباب رسالتي تونس ومصر وفجرت ثورة شعبية أنتجت مشهدا سياسيا مختلفا ذهب معه فرقاء الحياة السياسية إلى تسوية يرعاها الشركاء الإقليميون والدوليون من خلال مؤتمر للحوار الوطني الشامل الذي انطلقت أعماله في الثامن عشر من مارس 2013.
والتسوية إما أن تكون كاملة وشاملة تفضي إلى قيام دولة بنظام سياسي مرن يقبل الإصلاح بالطرق السلمية وبآليات الديمقراطية، وإما أن تكون منقوصة تفضي إلى إعادة إنتاج شروط نظام سياسي جامد يكرر أزمات الماضي وحروبه..في الحالة الأولى سيكون بمقدور اليمنيين العيش في ظل يمن موحد وآمن ومؤهل لتنمية شاملة ومستدامة..وفي الحالة الثانية لن يكون هناك يمن موحد ولن يكون هناك أمن ولن تكون هناك تنمية.
وعندما أنهى مؤتمر الحوار الوطني أعماله تنفس اليمنيون الصعداء وتوقعوا أن تذهب الأطراف الموقعة على مخرجاته إلى تشكيل كتلة وطنية تاريخية تنفذ بروح الفريق الواحد كل ما توافقت عليه من أجل بناء دولة تكون مظلة لكل اليمنيين..لكن الذي حدث أن كل طرف ذهب يرتب أوراقه الخاصة راميا عرض الحائط بكل ما وقع عليه في موفنبيك..وبدا واضحا للعيان أننا إزاء قوى سياسية فاقدة الأهلية لأي عمل سياسي قائم على التعاون والتشارك والتساند..وفي مشهد كهذا تصبح نتائج الحوار الوطني حبرا على ورق ما لم يتوفر لها حامل اجتماعي سياسي مؤهل أخلاقيا ومعرفيا وسياسيا لتنفيذها..وليس غير الشباب الواعي والمستنير من هو مؤهل للنهوض بهذا الدور..ولذلك كان الطريق الثالث.
والطريق الثالث هو امتداد طبيعي لساحات الحرية والتغيير، ولكن هذه المرة بلا وصاية ولا حماية من أحد سوى حماس الشباب وعقولهم ووعيهم واستنارتهم وإخلاصهم وقدرتهم على العطاء..والفرق بين المرحلة الأولى ممثلة بالساحات والمرحلة الثانية ممثلة بالطريق الثالث أن الشباب في الأولى خرجوا لهدم ما لا يريدونه بينما هم في الثانية بصدد بناء ما يريدونه..وقريبا سيودع اليمن مرحلة الشيخوخة السياسية إلى مرحلة الشباب..وعنوان هذه المرحلة: دولة تقف على مسافة واحدة من كل اليمنيين وتمكنهم من العيش كأمة متمتعة بصحة مستدامة.