لماذا الدولة الاتحادية ضرورة وطنية لليمن؟

مع احتفالاتنا بالذكرى الخامسة والثلاثين لليوم الوطني للجمهورية اليمنية وتحقيق الوحدة اليمنية، يجدر بنا أن نعيد فتح النقاش حول مشروع الدولة الاتحادية، ذلك المشروع الذي رفضته مبكرًا القوى السلالية الطائفية والمناطقية العنصرية، وناهضته بضراوة، ثم أعلنت الحرب عليه وعلى ما يمثله من قيم العدالة والمواطنة، حتى وجدنا أنفسنا — بعد كل تلك السنوات — بلا دولة تقريبًا، بل أمام هيكل فضفاض لم يعد يلبي الحاجة، ولا يعبر عن تطلعات اليمنيين، ولا يواكب تعقيدات الواقع وتشظياته.


لم تكن الأزمة اليمنية، في جوهرها، سوى انعكاس لعطبٍ مزمن في بنية الدولة منذ نشأتها الحديثة. فمنذ قيام الوحدة عام 1990، اختُزلت الدولة في مركز ضيق، هيمنت عليه نخبة محدودة، بينما بقيت بقية الجغرافيا اليمنية تدفع ثمن التهميش والإقصاء، سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا. 

 

ومع مرور الوقت، لم تنفجر الحرب بسبب خلافات أيديولوجية أو نزاعات مذهبية فحسب، بل لأن الوحدة المركزية تحولت إلى آلية قسرية لإخضاع التنوع، لا صيغة عادلة لاحتوائه. ولهذا، لم يعد الحديث عن شكل الدولة ترفًا نظريًا أو خيارًا سياسيًا قابلاً للتأجيل، بل أصبح سؤالًا وجوديًا يرتبط بإمكانية بقاء اليمن دولة موحدة من جهة، وقابلة للحياة من جهة أخرى.


الدولة الاتحادية في هذا السياق لا تُطرح كحل تجميلي أو وصفة مستوردة، بل باعتبارها استجابة واقعية لتعقيدات الجغرافيا والمجتمع والسياسة في اليمن. فهي تتيح إعادة توزيع السلطة والثروة على نحوٍ يعالج اختلالات الماضي، ويمنح المكونات المحلية شراكة حقيقية في صنع القرار. كما أنها تمثل ضمانة حيوية لبناء عقد اجتماعي جديد، يعترف بالتنوع دون أن ينقض عرى الوحدة، ويعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف على أساس من التوازن والعدالة والاحترام المتبادل.


إن تبني صيغة اتحادية مرنة وذات طابع مدني لا يعني بالضرورة تفكيك الدولة، بل قد يكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ عليها. فالاتحاد لا ينفي السيادة، بل يعيد تنظيمها. وهو، في الحالة اليمنية، يمثل ضرورة تاريخية وأخلاقية لإطفاء نيران الشعور بالغبن، ولإنهاء التهميش المزمن الذي طال مناطق واسعة من البلاد لعقود. كما أن هذه الصيغة تمكّن من مواجهة المعضلات الكبرى – من مركزية القرار إلى فساد الإدارة إلى احتكار الموارد – بتوزيع الأدوار والمسؤوليات وفق رؤية شاملة لبناء دولة عادلة وعصرية.


لقد أثبتت التجربة أن المركزية ليست فقط عقيمة، بل مدمّرة في السياق اليمني. وبدلًا من إعادة تدويرها بأسماء جديدة، فإن الحل يكمن في القطيعة معها من خلال نظام اتحادي يتأسس على العدالة والمواطنة والشراكة. فالدولة القادرة على احتواء اليمن ليست تلك التي تفرض نفسها من الأعلى، بل التي تنبع من الأرض، من الناس، من التنوع ذاته، وتعيد صوغه في دولة واحدة بأقاليم متعددة، تحمي الوحدة بالتوازن، لا بالهيمنة. 

 

لقد جاءت مخرجات الحوار الوطني الشامل ومشروع الدستور الاتحادي لتؤسس لهذا التحول، عبر تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم، صيغت بناءً على أسس جغرافية وسكانية واقتصادية تراعي طبيعة كل منطقة وتاريخها، وتضمن تمثيلًا عادلًا وتنمية متوازنة وشراكة فعلية في القرار الوطني، مع إمكانية مراجعة هذا الترتيب - متى ما برزت مظالم واقعية أو اختلالات تمس مبدأ العدالة - بما يحفظ حيوية الاتحاد ويحول دون تحوّله إلى إطار جامد يعيد إنتاج المركزية بثوب آخر.

مقالات الكاتب