تحزَّبوا أو تهوَّدوا!!
قبل الحرب استوقفني بائع خضار في السوق ، قال لي : أعجبتني رواية " حقل الفؤاد " ، فيها كل المتناقضات ، البغض والتسامح ، الخيانة والوفاء ، الحب والتعايش ، الظلم والحق ، الانكسار والانتصار ، وأجمل ما في القصة هو عودة " راحيل " اليهودية ولقائها ب " صابر " ، بعد أن ظننت أنه لا تلاقيا .
في مرة تالية التقيت ضابط متقاعد أخبرني أنه قرأ الروايتين " حقل الفؤاد " و " الشرق أشجان " ، وأنه استمتع جدا بقصة " جمال " و " أنوشكا " المعلمة الروسية و " أشجان " الفتاة الريفية راعية الضأن .
قبل أيام كنت مع اولادي ، وإذا بعامل بنشر اسمه محمد ، وهو خريج كلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء ؛ سألني ماذا كنت توقعت حدوث ما نعيشه اليوم ، حدثني أنه قرأ رواية " حقل الفؤاد " ووجد أحداثها الواقعة في اربعينيات وستينيات القرن الفائت تتسق مع مجريات الوقت الحاضر ..
هناك عشرات القصص التي صادفتني مع أشخاص بسطاء عاديين ، لكنهم مثقفون ومتابعون لكل ما يكتب في الصحافة أو مضمار النص الروائي .
وجدتني اسأل ذاتي : لماذا هؤلاء لم يحصلوا على فرصتهم على ما يمتلكونه من ثقافة ومعرفة ؟! .
الحقيقة المُرَّة هي أن فئة من الخلق صعدت فوق رؤوسنا بينما موضعها الطبيعي ليس هنا ، وبالمقابل هناك فئة مثقفة وموهوبة بقت في هامش الحياة ، والمفترض انها في رأس هرم الشأن الثقافي أو التعليمي .
الوطن الذي لا تكون ذخيرته المعرفة والموهبة والإبداع لن يكون وطنا جديرا بالأمل والتفاؤل والتطور والسلام .
المؤسف أننا ومنذ ستة وعقود ونيف ونحن في ذات الدوامة ، ننشد الخير والحب والنهضة ، بينما ادواتنا غير صالحة لتحقيق مثل هذه العناوين الكبيرة .
في لقاء جمعني برئيس الوزراء الأسبق الدكتور معين عبد الملك ، سألته السؤال الذي غالبا ما أستحضره في مثل هذه اللقاءات بالشخصيات العامة ..
قلت له : المثقف المستقل في هذه البلاد اين موضعه من الإعراب ؟ نريد انصافا لهذه الشريحة المهمة التي عانت من التهميش والاقصاء زمنا طويلا ، وما فتأت ضحية المزايدة والتقاسم الحزبي والمناطقي الذي يمارسه اشاوس الأحزاب اليمنية الذين استولوا على الوظيفة العامة ووزوعوها على اتباعهم ومواليهم وبكل صلف وصفاقة .
سردت عليه قصتي الشخصية مع وظائف كنت مرشحا لها أو وظيفة عانيت ما عانيت منها بسبب لعنة ان يكون الإنسان منتسبا لوطنه لا أقل ولا أكثر .
نعم لماذا يرتقي البعض ولمجرد أنهم يحملون عضوية المؤتمر أو الاشتراكي أو الإصلاح أو الناصري ، أو لمجرد ولائهم لهذا القائد أو ذاك الفصيل بينما المستقل عليه أن يدفع ثمنا لبقائه خارج دائرة الأحزاب والولاءات الضيقة ؟ .
اتذكر الان بمرارة ما عانيته كمستقل ، ناصحا الشباب أن لا يكرروا الخطأ الذي ارتكبته ، فلو أنني أسست حزبا من اي نوع أو التحقت بكيان حزبي لا يزيد حجمه في الواقع عن مقر وصحيفة ويافطة وقادة ، لربما كنت وزيرا أو سفيرا أو قنصلا أو وكيلا ، وهذه وظائف عامة ، ومن حق أي إنسان تتوافر فيه شروط شغلها .
هذه الأحزاب عبثها طال حتى حصة المستقلين في مؤتمر الحوار الوطني ، التفوا عليها وبقوائم حزبية تقاسموها كغنيمة ، وهذا دينهم للأسف الشديد ولا تغرنكم خطبهم العصماء عن الوطن والعدالة والمساواة وسواها من المفردات المدغدغة لمشاعر السذج والمخدوعين .
فبرغم انتفاضات وثورات وحروب ودماء وقرابين جسام ، مازال المثقف المستقل يعاني اغترابا مريرا في وطنه الذي احالته الحزبية والمناطقية والسلالية إلى مجرد جغرافية ووظائف وغنائم تتعارك عليها ديكة الاحزاب والمكونات السياسية والعسكرية .
وقبل أن اختم مقالي هذا ادعو الشباب المستقل حزبيا أن لا يكتفي بشهادته أو كفاءته أو ثقافته ، فهذه المؤهلات لا تمنح الشخص وظيفة أو مركزا مرموقا أو عيشا كريما، ما يتوجب عليه الانتساب لأي حزب أو فصيل أو مكون ، باعتبارها جميعا رافعات لبلوغ ما يروم له .
نعم ، تحزبوا ولسان الحال يردد هجاء شاعر مصري حينما استبد اليهود بكل شيء في عهد المماليك :
يهود هذا الزمان قد بلغوا .. غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم .. ومنهم المستشار والملكُ
يا أهل مصر إني نصحت لكم .. تهوَّدوا قد تهوَّد الفلكُ ..