أسطورة المدفعيّة منذ البداية إلى ما قبل الرحيل

ناذخ والمدفعيّة اسمان متلازمان،لم ينفصلا منذ ستة عقود من الزمن وحتى اليوم،فكلما ذُكِرَ سلاح المدفعية ذُكِر ناذخ ،وكلما ذُكِر ناذخ ذُكرت المدفعية،لتربعه الطويل على عرش مجدها الذي لازمه لعقود،فصار كل منهما يدل على صاحبه،وكأن اسم ناذخ والمدفع مترادفتان لكلمة واحدة .
ولد اللواء/ محمد عمر ناصر السعيدي،في قرية امصلعاء،إحدى قرى دثينة،محافظة أبين،وهو وحيد أبويه،فليس له إخوة من الذكور،أو الإناث،مات والده وهو لايزال صغيرًا؛فنشأ يتيمًا في كنف أمه،فواجه الحياة بعصامية،معتمدًا على نفسه .
 
التحق اللواء/ ناذخ بالقوات المسلحة عام 1954م، وفي عام 1964م رُقي إلى رتبة ملازم في جيش ماقبل الثورة؛ بأوامر من الملكة اليزبث الثانية ملكة بريطانيا.
ومن هنا انطلق ناذخ في مشوار حياته العسكري الحافل بنياشين المجد،وتيجان البطولة الذي استمر لتسع وخمسين عامًا،كان بطلها رجلًا المعيًا،حاد الذكاء،ترى ذلك بوضوح، تشع به عيناه، اللتان تبدوان كعيني صقر؛ لا تخطئ أهدافها؛ إذا ما هوت عليها إبهام يده ،وقبض أصابعه الأربع،فتخطف أهدافها؛ كما تهوي مخالب الصقر على فريسته.
جمع ناذخ في جراب خبرته العسكريةالطويلة الخبرات العسكرية بشقيها الشرقي والغربي معًا،لتعدِّد المحاضن العسكرية التي مرَّ بها في اكاديميات الشرق والغرب،فقد حصل على عدد من الدورات العسكرية الخارجية قبل الاستقلال في كل من الأردن،وإكاديمية هارفرد البريطانية للعلوم العسكرية،اللتان تَتْبِعَان النمط  العسكري الغربي،وحصل بعد الاستقلال  على دوره إلى إحدى الإكاديميات الروسية في موسكو،حصد منها في زمن قياسي أعلى جائزة على الإطلاق، لا تُمنح هذه الجائزة إلا للخوارق الذين مروا عبرها،فقامت الإكاديمية بنحت اسمه في المتحف العسكري الروسي في موسكو- ولايزال منحوتًا لليوم- بين كوكبة من أشهر الضباط الميدانيين من مختلف الدول الشرقية،ليتفرد بهذا الشرف وحده على مستوى اليمن،لا يشاركه فيه سوى قلة بعدد الأصابع من الضابط العرب  . 
هناك الكثير من المآثر التي  تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل، كما وثقتها عيون الذين رأوها في ساحات المعارك،وميادين المناورات العسكرية،واحتفظت بها وثائق ملفه العسكري في ديوان وزارة الدفاع.
ففي إحدى المناورات العسكرية الكبرى  التي نفذها الجيش الجنوبي في منتصف سبعينيات القرن الماضي،في الصحراء التي تقع بين صلاح الدين وبئر أحمد،بإشراف خبراء من جينرلات الجيش الروسي،وبعد أن تم الإعداد والتجهيز للمناورة،تفاجأ الجميع  صبيحة يوم المناورة بسحب الضباب الكثيفة التي تغطي مكان المناورة،فقرر الخبراء الروس تأجيل المناورة إلى صباح اليوم التالي،فأصرَّ ناذخ على تنفيذ المناورة في موعدها،وأقنع الروس بطريقة فيها شيئًا من التحدي،مؤكدًا لكبير الخبراء،ومعاونيه استطاعته إصابة الإهداف رغم كثافة الضباب الذي يقف حاجزًا بين الأهداف، وفوهات المدافع، وأصرَّ الروس على استحالة إصابتها مطلقًا،في حين أبدى ناذخ للروس تحمله كامل المسؤولية عن فشل المناورة إذا لم يصب أهدافه،قبل الروس التحدي،وقبل ناذخ المنازلة،وانطلقت المناورة،فكانت عيناه -اللتان تشبهان إلى حد كبير عيون الصقور- تخترق سحب الضباب التي عجزت مناظير الروس عن اختراقها،فبدأ يقوم بحركته المعهودة التي أُشتهر بها،بقبض إصابعه الأربع،بينما تكون الإبهام في حالة إرتكاز، بهذا الشكل (?)وكأنها حركة سحرية،لم يستطع الخبراء العسكريون فك رموز شفرتها إلى اليوم،ويبدو أن  مهلة اكتشاف سرها قد أوشكت على النهاية،بعد أن أصبح صاحبها يقف على حافة القبر! يبدو إنها علامة مميزة خاصة بناذخ وحده،لذا قرَّر أن يأخذها معه إلى القبر؛لتظل الأجيال في انبهار  إلى الأبد!
نَفْذَ الجيش المناورة،وأخذت الأهداف التي يغطيها الضباب تتهاوى بعد أن استطاعت عينه اليمنى- التي هي أصغر حجمًا من عينه اليسرى- اختراق سحب الضباب،لتتطاير الأهداف حطامًا كلما صوّب بهامه اليمنى نحوها،وقف الخبراء الروس في حالة ذهول،ودهشة! مما تشاهده أعينهم،لقد كسب ناذخ الرهان،كعادته في أي معركة،ليقرر الخبراء الروس بعد المناورة أخذه إلى وزارة الدفاع،لتسجيل ملاحظاتهم،وتدوين شهادات اندهاشهم وإعجابهم بهذا القائد الأسطوري،ووجهوا قيادة الوزارة بالاهتمام بقدراته الخارقة،دار الزمان دورته،وتم مكافأة اللواء/ ناذخ بتسريحه من الجيش،بعد الإطاحة بالرئيس سالمين مباشرة،وكان حينها قائدًا لسلاح المدفعية،وهو آخر منصب شغله في جيش الجنوب،والذي استمر فيه من عام 1972م إلى عام 1979م وتعد فترة طويلة بحساب تلك المرحلة المضطربة،بالتصفيات،والصراعات.
فكافئ الرفاق ناذخًا- بعد شهادة الروس له - بتسريحه من القوات المسلحة،لتنتصر الايدلوجيا على الكفاءات الوطنية المجربة،نُقل ناذخ للعمل في شركة الاستكشافات النفطية،وهنا أسأل هل كان الرفاق يريدون  الاستفادة من حدة بصر ناذخ لاختراق طبقات الأرض ليدلهم على مكان النفط! أنها حالة واحدة من حالات الغباء الكثيرة،وشاهد من شواهد كثيرة تدل على سفه تلك المرحلة، وطيش العقول التي صعدت لحكم البلد في تلك الفترة  .
من قلة حياء الأنظمة التي سرَّحت ناذخًا من القوات المسلحة لمرتين، إنها كانت تعود إليه حين يشتد الخناق عليها،تستجدي خبرته،وتتسول وقوفه إلى جانبها،وقت المحن،كما جاء بنو عبس يستجدون عنترة بن شداد ليعيرهم ساعده ليذود عن حياض القبيلة مقابل حريته،فأطلقوا كلمتهم المشهورة التي لايزال صداها يتردد في آفاق التاريخ ( كُرْ يا عنترة وأنت حر)مع الفارق بين المثالين،فناذخ لم تعتذر له الأنظمة التي سرحته من الجيش عند كل مرة تحتاج إليه،كما اعتذر بنو عبس لعنترة ،ففي المرة الأولى جاء الرفاق إلى ناذخ أثناء حرب المناطق الوسطى ،يستجدون خبرته في سلاح المدفعية،فكلفوا صالح مصلح الذي كان حينها وزيرًا للدفاع،ليذهب إلى ناذخ الموظف المدني في شركة الاستكشافات النفطية! وقد عُرِفَ عن ناذخ أنه صاحب حجة،و بديهة في الجواب لايعجزه الرد أبدًا،وصاحب نكتة،فحين طرح عليه صالح مصلح الأمر،قال أنا رجل مدني لم يُعد لي أي إرتباط بالجيش،وهذه مخالفة صريحة لقانون الخدمة العسكرية،كيف تستعين الدولة برجل تم تسريحه للصالح العام؟بعد أن حسبته بالأمس- باطلًا- على قوى الثورة المضادة، لتأمنه اليوم على أسرار جيشها،لأن الرفاق كانوا يتشدقون- ليل نهار-  بالحرص على تطبيق النظام والقانون؛ لتبرير تصفيتهم للذين لا يؤمنون بايدلوجتهم،ويدوسون النظام بأضلافهم للوصول إلى غاياتهم،وهذه ليس إلا واحدة من مغالطات تلك المرحلة التي قامت على المغالطة ومصادرة حقوق الآخرين.
والمرة الثانية كانت في عام 2002م حين أُحيل اللواء/ ناذخ إلى التقاعد بدعوى بلوغه الأجلين، السن والخدمة،ليخرج بمعاش تقاعدي مقداره 88500 ريالًا فقط،وهو الراتب الذي يتقاضاه إلى اليوم،فعاد إلى بيته،والعمل  في مزرعته،ليستدعيه بعدها الرئيس السابق علي عبدالله صالح،للاستفادة من خبرته العسكرية بنظام التعاقد، كخبير عسكري في مدرسة الحرس الجمهوري،والتي استمر فيها حتى عام 2013م،وهنا سؤال يطرح نفسه،ألم يبلغ اللواء/ ناذخ الأجلين وأُحيل للتقاعد؟ لماذا طبق نظام الأجلين لإخراجه؟ ولم يطبق نص قانون الخدمة الذي يسمح للمؤسسة الاستفادة من الكفاءات، من خلال تمديد الخدمة إذا كان الفرد قادرًا على العطاء،ولازالت المؤسسة محتاجه إليه ! 
يقضي اللواء ناذخ اليوم خريف عمره ما بين بيته ومسجده،منقطعًا للعبادة بعد حياة حافلة بالإخلاص والتميز،يعيش في بيت يواجه الخارج منه جبل زَرِب -الذي يُعد أعلى قمة في دثينة- وكأنها تحتظنك عند خروجك،وحين تلج إلى البيت يقابلك اللواء/ناذخ الذي يقف على قمة أعلام القوات المسلحة،لعمري هل هذا وليد الصدف؟ أن تخرج من داره فتواجه منارة من منارات الأرض الطبيعية الخالدة على مر العصور والأزمان،وحين تلج إليها تقابلك علامة من علامات اليمن البشرية التي سيخلدها التاريخ في أسفاره مادام زَرِب رابضًا أمام داره .

ملاحظتان :
- الأولى : ماورد في المقال من أراء سياسية تعبر عن رأي كاتبها،وماورد فيه من معلومات حصلت عليها من بعض الوثائق، وبعضها الأخر سمعتها من قادة مقربين عملوا معه في مختلف المراحل،لأني لم ألتق الوالد اللواء/ ناذخ منذ عشر سنوات تقريبًا،ولم أسمعها منه .
الثانية : أبدى أولاده انزعاجًا من تداول صورة والدهم،وما صاحبها من مناشدات لا تعبر إلا عن رأي أصحابها،فالكبر سنة الله في الخلق،وهو يعيش راضيًا عمَّا قدم،لايتمنى شيئًا سوى رضا الله،وحسن الختام .

            #سعيد_النخعي
        22/فبراير/2021م

مقالات الكاتب