المرتكزات العامة للثقافة اليمنية
تتعدد اليوم مداخل التنمية المجتمعية الشاملة بعد أن كان مفهوم التنمية يكاد يكون مقتصرا على الجانب الاقتصادي فقط، وهو مفهوم كلاسيكي، تعداه إلى المفاهيم الأخرى بعد أن صارت مختلف جوانب الحياة كلا لا يتجزأ، وكل جزئية منها تؤثر على الأخرى إيجابا أو سلبا، خاصة مع العولمة التي حتمت على كل الشعوب أن تعيد النظر في مفهوم ما عرف مؤخرا "الأمن الثقافي" الذي يعتبر أحد جزئيات الأمن القومي الشامل، جنبا إلى جنب مع الأمن الغذائي والأمن التعليمي والأمن السياسي والأمن المعلوماتي...إلخ.
إن أُسَّ المشكلات الكبرى التي تنشأ داخل الشعب الواحد تعود ــ في الغالب ــ إلى السبب الثقافي غير المبني على أسس متينة وأرضية صلبة من المشترك الثقافي الواحد بين كل أبناء الوطن، وإن تعددت مشاربهم السياسية أو أصولهم العرقية، إنما المشترك الثقافي الواحد يجب أن يكون ثابتا وراسخا في الوجدان، كمسلمة عقدية لا تقبل التفاوض أو المساس بها؛ لأن للشعوب عقائدها الوطنية كما لها عقائدها الدينية، وأي خلل في ميزان هذه العقيدة ينعكس مباشرة سلبا على السلم الاجتماعي والأمن الوطني، ويعتبر مهددا لأمنها القومي، حاضرا ومستقبلا.
وتزداد أهمية المشترك الفكري والتنمية الثقافية أكثر في المجتمعات المركبة، ذات الصبغة "الكوسومبولتية" في الأرضية الواحدة التي ينتمي إليها أكثر من عرقية ودين وثقافة ولغة، بعد أن صارت الجغرافيا هي المحدد الرئيس اليوم للعيش المشترك في الشعب الواحد بصرف النظر عن تباين أديانهم أو أعراقهم أو لغاتهم، بعد أن فشلت الأيديولوجيات العابرة للحدود بسبب مخيال اليوتوبيا الذي تقوم عليه.
إن التنمية الثقافية اليوم إحدى ركائز التنمية الوطنية الشاملة التي تضطلع بها الشعوب في استراتيجيتها القومية، وبدونها لا يمكن تحقيق تنمية شاملة مهما تقدمت سياسيا؛ فلا بد من السير معا في خطوط متوازية، لتحقيق دولة الرفاه الاجتماعي، والرفاه الاجتماعي لا يقتصر على الجانب المعيشي في مظهره التقليدي فحسب؛ بل الرفاه الثقافي والعلمي أيضا، إلى حد اعتبار الفنون ــ وهي جزء من الثقافة ــ سياسة الأمم المتقدمة، واعتبار السياسة فن الأمم المتخلفة..!
المنطلقات الكبرى في الثقافة اليمنية
الثقافات بطبيعتها مؤثرة ومتأثرة، وهي متداخلة مع بعضها من قديم الزمن، وبين يدينا نماذج العديد من هذه النماذج كالتأثير والتأثر بين الحضارتين الهندية من جهة والفارسية من جهة أخرى. وأيضا بين الحضارة الفارسية والحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى، فقد تداخلتا حد الامتزاج. ومع هذا يظل لكل بلد خصوصيته الثقافية، المنطلقة من أرضيته المعرفية الخاصة، المتشكلة من التاريخ بتفاصيله ومن الجغرافيا بتعاريجها، فعبقرية المكان حاكمة لا تقل أهمية عن عبقرية الزمان أو الأشخاص، وهي متحكمة في صناعة الأحداث الكبرى.
ومن الطبيعي أن تزداد عملية التأثر والتأثير اليوم في ظل العولمة والفضاءات المفتوحة ووسائل الاتصال ليكون التداخل أكثر وأسرع، فتتماهى الحدود الثقافية وتنساح المفاهيم والقيم الخاصة بالشعوب في بعضها البعض، مع الأخذ بالاعتبار أن الكيان الأقوى هو الأقوى تأثيرا؛ لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وفقا لابن خلدون.
وتتشكل الثقافة اليمنية من دعامتين أساسيتين، كمرجعية عليا في القيم والتصورات وأنماط السلوك، هما:
أولا: الهوية الحضارية والتاريخية:
اليمن من البلدان العريقة حضاريا، وحضارتها ــ التي تعد من أولى الحضارات الإنسانية ــ لما تكتشف بعد. هذا إن لم تكن هي الحضارة الإنسانية الأولى التي تشكلت على وجه الأرض. وقد مرت بأطوار عدة من التقدم والرخاء ثم تراجعت، حتى كان انهيار السد في القرن الميلادي السادس، وقيل قبل ذلك، على خلاف بين المؤرخين. شكلت هذه الحضارة ــ ولا تزال ــ مرجعية في بعض السلوكيات والأنماط الاجتماعية إلى اليوم على تقادم عهدها، وكأن تلك الحضارة تجري في دماء وجينات اليمنيين إلى اليوم.
من هذه الملامح التي لا تزال ماثلة إلى اليوم، ثقافة بناء المدرجات والسدود ومنظومة الأعراف القبليـَّة الشفاهية كقوانين غير مكتوبة، وبعض الطقوس الدينية التي مارسها اليمنيون قديما، وأقرها الإسلام، وفي مدونة القديس جرجينتي من القوانين الحميرية ببنودها الأربعة والستين ما يكفي للجزم بعراقة وأصالة تلك الحضارة.
ولا تعتبر مدونة "جرجينتي" لوحدها ملمحا حضاريا؛ بل إلى جانبها منظومة القوانين الأخرى في مجال الزراعة والبناء واستصلاح السدود وتأجير الممتلكات والعقارات كما أشارت إلى ذلك نصوص المسند؛ وكذلك في المجال التجاري فقوانين سوق "شمر" أنموذج للمدى الرقي الحضاري الذي وصلت إليه اليمن قديما؛ أما قوانين وتعاليم المعابد ودور العبادة لدى اليمنيين القدماء ففيها ما يدهش العقل.
ما أود أن أوضحه هنا تحديدا أن الشعب اليمني يستند إلى هوية حضارية عريقة، ذات صبغة إنسانية عادلة، لها صلتها بالحضارات الأخرى التي تشكلت على ضفاف النيل في مصر أو الفرات في العراق، مع الإشارة هنا إلى أن ما يميزها عن هذه الحضارات إنسانيتها ورقيها الحضاري الأكثر مدنية، كما تكشف عن ذلك نصوص المسند، ولذا لم نقرأ في تاريخ هذه الحضارة عن طغيان الفرعون في مصر او استبداد النمرود في العراق، وباستقراء شريعة حمورابي في بابل ومقارنتها إلى القوانين اليمنية نجد أن القوانين اليمنية مرتكزة على الجانب الإنساني الخالص في نزعتها الفلسفية، لا تحمل دموية أو طبقية قوانين حمورابي، كما لا تحمل نزعتها الاستبدادية في الحكم؛ بل لقد كان نظام الحكم في اليمن شوروي "ملئي" من خلال مجلس المسود أو الأقيال..
وبشكل عام، فحضارة اليمن العريقة قد تميزت بكونها حضارة علمية ودينية متقدمة، من خلال:
1ــ وجود عملة اقتصادية لهذه الحضارة، تعاملت بها، بجميع وحداتها التي أفصحت عنها النصوص، ولم تكن تعتمد طريقة المقايضة البدوية في السلع والمنتوجات كما تفعل المجتمعات البدائية.
2ــ وجود تقويم حسابي شمسي وقمري، تعامل به اليمنيون في مستندات التعاملات والوثائق السياسية، وفي حسابات المنازل والكواكب التي تقوم عليها الزراعة، وطرق الملاحين البحرية.
3ــ وجود منظومة القوانين الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نظمت شؤون الناس ومعاملاتهم.
4ــ وجود تقاليد ملوكية ممثلة بالتاج الملكي والعرش الذي وصفه الله عز وجل في القرآن الكريم بالعظمة، فقال عن عرش بلقيس: "ولها عرش عظيم". ولم يصف الله تعالى شيئا بالعظمة ــ وهو العظيم ــ غير عرش بلقيس.
5ــ وصول امرأة إلى سدة الحكم دليل على الترف الاجتماعي والمادي والسياسي الذي وصل إليه المجتمع، ودليل على الرقي الحضاري والفكري لدى هذا الشعب الذي يكرم المرأة، لأن المجتمعات المتخلفة تنظر إلى المرأة نظرة ازدراء وتخلف، ولا تحظى فيها بالاحترام والتقدير، ليس في المجتمع العربي فحسب الذي يتسم بكونه مجتمعا ذكوريا؛ بل في كل المجتمعات بلا استثناء، علما أن ثمة "بلقيسات" أخر إلى جانب الملكة بلقيس تصدرت مناصب سياسية أخرى، كما تصدرت أيضا منصب "الكهانة" الدينية وهو من المناصب المهمة في حياة النسوة، كما هو الحال مع الكاهنة "رشوت" التي تحدثت عنها نصوص المسند. وفي العصر الوسيط كانت الملكة أروى "سيدة بنت أحمد الصليحي" على رأس الدولة اليمنية، وعرف عصرها بكونه من أزهى عصور التاريخ اليمني.
6ــ وجود منظومة متكاملة من الفنون التصويرية والسمعية التي سادت المجتمع اليمني قديما، كالنقش والزخرفة والغناء والموسيقى والتصوير الملحمي، وممارسة مجتمع ما للفن دليل على رقيه الحضاري، وعلى ترف العيش، كما توضح نصوص المسند، وكشفت عنها الدراسات الأثرية والتاريخية.
وبشكل عام، فهذه وغيرها من الملامح التاريخية منطلقات حضارية لشعب بلغ أوج حضارته في زمن كانت أوروبا كاملها جليدا غير قابل للسكنى، وكانت أغلب شعوب المعمورة ترزح تحت نير الاستبداد والطغيان والإقطاع المتحكم؛ أما اليمني فقد كان سيدا برأسه، لم يعرف الاستبداد أو يألفه مطلقا.
وحين جاء الإسلام لعب الدور الأبرز في الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا، بتقاليده العسكرية الموروثة، وهي تقاليد دولة بتكتيكها الحربي، لا تقاليد فرد بخبرته الشخصية التي تعامل بها عرب الشمال في كل تلك الفتوحات..
إن جينات الحضارة لا تزال تجري إلى اليوم في دماء اليمنيين وأوردتهم، ولا يزالون يبحثون ــ في اللاوعي ــ عن فردوسهم المفقود وحضارتهم المدفونة التي حطمتها الإمامة الكهنوتية وأتت عليها من قواعدها خلال فترة حكمهم كاملة، وقد تعاملت مع هذا الموروث كما لو أنه ضرة سياسية لها، فدمرت آثار اليمن ومعالمه الحضارية واهمة أنها ستحل هي بأصنامها البشرية محلها، ولكن دون ذلك خرط القتاد.
إن من يتأمل في منظومة الأعراف القبلية يجدها تكتنز بقيم إنسانية واجتماعية على قدر عالٍ من الرقي والتقدم، بصرف النظر عما شابها من بعض الجزئيات التي لا تعبر عن مقاصدها الكلية، هذه الأعراف تنتمي ــ في جزء منها ــ إلى تاريخ اليمن الحضاري القديم، وهي التي حفظت السلم الاجتماعي، ورعت مصالح الناس ومعاشهم وأحوالهم في وقت غابت فيه الدولة بقوانينها الرسمية، ولا تزال إلى اليوم. ونحن ندرك جميعا أن ما يزيد عن 80% من القضايا الاجتماعية اليمنية يتم حلها وديا بالتحكيم القبلي، خاصة القضايا الأسرية والعائلية، بناء على هذه الأعراف الموروثة التي سدت فراغ الدولة.
ولا يكاد يوجد شعب من الشعوب له من الأعراف القبلية ما لشعب اليمن، وهي أعراف إيجابية في غالبها، لعبت دورا إيجابيا رائدا مع غياب الدولة.
هذه المنظومة جعلت اليمني يحتكم إلى المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية بوحي من الضمير الخالص، رغبة في التميز والترقي الاجتماعي، ورهبة من العار الذي قد يلحقه إذا ما تجاوز أخلاقيات المجتمع، خلافا لكثير من الشعوب التي لا تحتكم للقانون إلا رهبة من لهيب السياط التي تلفح ظهره أو حد السيف المرهف الذي يفصل رأسه عن جسده. وهي ميزة وثقافة كان من الممكن أن نبنيَ عليها قيم الدولة المدنية الحديثة، وأن تكون أحد روافع البناء والتنمية الاجتماعية؛ لكن للأسف ذلك ما لم يكن، بسبب فشل قياداتنا السياسية في القرن العشرين في بناء الدولة العصرية، أما قبل ذلك فلم يكن ثمة حلم لبناء دولة، وقد كانت الإمامة متحكمة بالشعب في شماله، وهي الكهنوت الغاصب الذي لا يهمه بناء دولة أو صناعة مجتمع، وفي الجنوب كان الاحتلال جاثما على صدره، وكان كل منها ــ الإمامة والاحتلال ــ وجهان لعملة واحدة.
ثانيا: القيم الدينية:
مثّل الإسلام بقيمه الأخلاقية وتعاليمه الدينية أحد عوامل النهوض الحضاري للعرب، وخاصة عرب الشمال الذين لم يكونوا على شيء قبله، بحكم تغولهم في البداوة ونفورهم من ملامح الحضارة والتمدن، وكان رافدا جديدا وحضاريا تأسست للعرب بموجبه حضارة جديدة كان لها امتدادها الكبير في الشرق والغرب.
وكان اليمنيون هم عماد هذه الدعوة الجديدة التي على أكثر من صعيد، كونهم أكثر الناس تطلعا لاستعادة الذات الحضارية التي افتقدوها قبل ذلك بعقود من خلال الفكرة الجديدة، لذا هبوا إلى الإسلام مؤمنين بمجرد النداء الأول والرسالة الأولى من نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.
وإضافة إلى القيم الحضارية السابقة في وعي اليمنيين وثقافتهم كانت قيم الإسلام تشكل رافدا جديدا في التحديث الفكري والثقافي وفيما اندثر أو تآكل في منظومة الأخلاق والسلوك خلال الفترة السابقة للإسلام التي بدأ فيها اليمنيون بالانحدار الحضاري، فامتزجت تعاليم الدين الجديد بقيم الحضارة المتلاشية، وهي قيم إنسانية ومدنية على قدر من الترقي، كما أسلفنا، ولا تضاد بينهما، إلا أن كل هذا لم يجعل من اليمن مركزا حضاريا جديدا، بحكم تمركز الحضارة الجديدة في مكة والمدينة ثم دمشق وبغداد والقيروان فالقاهرة، في الوقت الذي استنزفت الفتوحات الإسلامية أغلب القيادات المجتمعية الفاعلة في اليمن، فكانوا رجالات الفتح الأوائل وقادة الجيوش في كل من اليرموك والقادسية ثم في فتوحات بلاد فارس ومصر والمغرب والأندلس، والذين حل محلهم المتورد القادم يحيى حسين الرسي، إمام ما يسمى بآل البيت في اليمن الذي أسس دولة على أساس عنصري مقيت في شمال اليمن، بعد أن فر من عدالة الخلافة العباسية في بغداد إلى جبال اليمن الحصينة، وظل الصراع قائما بين نسله وبين اليمنيين إلى مطلع ستينيات القرن الماضي.
مثّل هذا الصراع بين اليمنيين والرسيين، حالة من الاستنزاف الجديد لمقدرات المجتمع اليمني وخيراته، بما فيه رأس المال البشري نفسه الذي طحنته الحروب والثارات، كما دمره التجهيل المتعمد من قبل حكام هذه السلالة الذين يسوؤهم تميز أي يمني أو نجاحه.
على أية حال، يمثل الإسلام بروحه الخالدة وقيمه السامية مرجعية أصيلة في التفكير والتصورات والسلوك لدى الشعب اليمني، باعتباره شعبا عربيا مسلما، عدا مئات قليلة من الطائفة اليهودية، لا تكاد تمثل نسبة تذكر، ومع ذلك فهذه الطائفة تحترم هذه القيم ولا تصادمها، وإن اختلفت معها.
ومن هذه المرجعية الإسلامية يستمد الشعب اليمني ثقافته، إضافة إلى هويته الحضارية التاريخية، بقيمها الأصيلة التي عززتها تعاليم الدين وقيمه السمحة. ومن هنا نستطيع أن نبني يمننا الجديد ــ ثقافيا ــ من هذا المنطلق، ووفقا لتلك القيم كموجهات عامة في السلوك والعيش المشترك. وهي موجهات قمينة بصناعة مجتمع رشيد، متسامح وقابل بالآخر مهما اختلف معه، الأمر الذي يُحيل التنوع الحاصل إلى قوة فاعلة وإيجابية لبناء الدولة الضامنة. وبحسب ايريك فروم: "كل الديانات يمكن أن تدعم التدمير أو الاستعداد للحب، كما يمكنها أن تدعم السيطرة والاستئثار، أو المشاركة والتعاون. إن بإمكانها أن تطور الذوات، كما باستطاعتها أن تشكل عائقا أمام تطورها".
ووفقا لما سبق نستطيع القول إن الهوية الثقافية اليمنية متشكلة من التاريخ الحضاري للشعب اليمني بامتداده العريق، وأيضا من قيم الدين الإسلامي الحنيف وقيمه الشاملة، وهما دعامتان ثقافيتان تشكل هويته وذاته الحضارية.