صناعة التماثيل المقدسة

ظل الجنوب معملًا لصناعة التماثيل المقدسة،ومرتعًا لتفشِّي أوبئة الشعارات الفارغة،وحقلًا للتجارب الانتهازية الفاشلة،كلما دار الزمان دورته وجدنا أنفسنا في ذات المربع، نكرر نفس الأخطاء،ونمارس ذات الأساليب في كل مرحلة،وكأنَّ عقارب الزمان لم تتحرك،والواقع  لم يتغيَّر أو يتبدَّل.
سيطر على الذات الجنوبية الحقد فحال بينها وبين رؤية الحقيقة التي تعيشها،لتجد نفسها في كل مرة عاجزة عن التعاطي  في مواجهة الواقع، وتشخيصه كما هو،فتلجأ للهروب إلى الأمام،فتُلقي بتبعات أعمالها على الأخرين بدلًا من أن تتحمل نتاج أعمالها،ومواجهة الحقيقة الماثلة أمامها،نتيجة للصمم العصبوي الذي عطَّل سمعها،وشلَّ بصرها جرَّاء انغماسها في الماضي،وعجزها عن مغادرته؛ فأصبحت الخطيئة عمادًا لبنائها الثقافي،ومنطلقًا لتعاطيها السياسي مع الحاضر،ووسيلة للتهرَّب  من تحمل تبعات كوارثها وأخطائها .

لازالت الأجيال المعاصرة تعيد إنتاج ذات العقلية القديمة،بنفس الأساليب والأدوات العقيمة، مُصرَّة أن لاتتغيَّر ولاتتبدَّل،ولا تتَّعض ولا تتعلَّم،ولاتعترف ولا تعتذر، ولا تندم ولا تتألَّم ،أكسبها  تكرار هذا الموروث النكد مناعة حالت بينها وبين التغيير .
فالتغيير يأتي من الداخل فلا تنتظره من  الخارج،تتظافر في صناعته مجموعة من العوامل المحلية المستوحاة من تجارب المجتمع لتعيد تشيكل صناعة العقل الجمعي للمجتمع،للانتقال بأفراده من طور  الثقافات العصبوية القديمة إلى طور الدولة الحديثة،وإخراج مكوناته من مستنقع شح المصالح الفئوية الضيقة إلى رحاب المصالح الوطنية الواسعة .

شاخت العصبويات العرقية، والقبلية، والمناطفية، والمذهبية في كل أرجاء المعمورة؛ فأصبحت جزءًا من الماضي،في حين تُصّر هذه العقلية على إعادتها جذعًا كلما أوهنتها السنون،وباتت لاتحرك يدًا أو تنطق بلسان .
نكرِّر نفس الشعارات،ونعيد نفس الأساليب بذات الوتيرة المتشنجة،وبنفس العقلية المتطرفة التي لاتقوى على إمساك العصا من منتصفها في كل مرة .
كانت الوحدة مشروعًا مقدسًا،وخيارًا احاديًا ملزمًا في نظر الجيل الأول الذي ورَّث هذه العقلية،وكان مجرَّد السؤال عن ماهيتها، أوكيفتها جريمة موجبة لإنزال أقسى عقوبة بحق من يسأله،فلما فرضتها هذه العقلية على الناس بالطريقة والأسلوب الذي  قررته؛ تبرأت منها،ليتحول  الوحدويون المتطرفون إلى انفصاليون أشد تطرفًا، وكالعادة لاتسأل عن كيفية مشروع  الانفصال،أو ماهيته،فكما كانت معارضة الوحدة جريمة بالأمس في قانون الجيل الأول بات التفوَّه بذكرها اليوم جريمة في عرف الجيل الثاني، فالنقيضان موجبان لنفس العقوبة في نظر هذه العقلية .

 لقد بات كل شيئ في واقعنا مكررًا ممجوجًا،فالشعارات هي الشعارات،والأساليب هي الأساليب،والنزق هو النزق،والتطرف هو التطرف،تمارسه نفس الفئة كلما انسلخت عن ثوابتها التي كانت عليها، أو تنكرت للمشاريع التي كانت  تدعو إليها .

من ينظر إلى تجربة هذه العقلية،ويقيِّم نتاجها خلال ثلاثة عقود فقط،سيجد أنها جمعت التطرف،والتذبذب، والمزايدة من أطرفها؛لهثًا وراء المصالح الفئوية الضيقة دون حياء أو خجل،فخجلت من سفه هذه العقلية المشاريع، والأفكار، والاتجاهات السياسية ولم تخجل هي ولو مرة واحدة .

مقالات الكاتب