اليمن وعقدة جيرانه

لليمن مع التاريخ قصة، ومع الحضارة حكاية؛ تروي فصولها قصة عاشقين هام كل واحد منهما بالآخر،فتعانقا عناقًا سرمديًا؛ لم تستطع السنون فصل أحدهما عن الآخر، ولم تستطع عوادي الدهر، ونوائب الأيام أن تقطع وصلهما، فنتج عن هذه التلازمية اتحاد اليمن بالتاريخ ، وحلول اليمن في الحضارة، فصار اليمن دليلًا على التاريخ،وأضحت الحضارة وسمًا له رغم التجاعيد التي رسمتها يد الفقر على وجهها، وما خطته مخالب الصراع من آثار على جسدها،قصة تحكي صراع الإنسان في هذه البقعة المتكئة على البحر منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، امتزج فيها الزمان بالمكان فغدت هذه البقعة دليلًا على التاريخ، وصار التاريخ دليلًا عليها .

لم يشقَ شعب بتاريخه كما شقي اليمنيون بتاريخهم، ولم يلقَ شعب من الشعوب من العناء ما عاناه اليمنيون من حضارتهم ، ظاهرة فيها من الغرابة والتفرُّد تجعلها حَرِيِّة بأن يقف أمامها الباحثون بمختلف تخصاصتهم التاريخية، والاجتماعية والثقافية، والسياسية - وأعوذ بالله - من الأخيرة، نسيت بإن هذه الفئة ليس لها من البحث سوى التزوير والتلفيق، ولي عنق التاريخ،والجغرافيا، والاجتماع ومعها الرياضيات؛ فلو استطاعوا أن ينسبوا نظرية فيثاغورص في الرياضيات لأحد قادتهم، أو زعمائهم لفعلوا دون حياء أو خجل.

مَثَلَ حضور اليمن التاريخي الموغل في القدم لجيرانها عقدة مزمنة، لاستئثار اليمنيين بالدور الحضاري دون غيرهم من شعوب الدول المجاورة التي لايتجاوز عمر بعضها عمر شجرة الموز في دلتا أبين،أو سهل تهامة،لذا ظلت اليمن وسط محيطها كشيخ وقور أكسبته السنون وقارًا،وأورثه التصاقه بالتاريخ مهابة،فصار هو التاريخ ،والتاريخ هو،فجعلت منه هذه التلازمية شاهدًا على وقائع الزمان وأحداثه ،ووصيًا على نسب هذه البقعة من الأرض لايمكن أن يصل من يدعي الانتساب إلى يعرب بن قحطان إلا من خلاله،ولا تستطيع التجمعات العشائرية التي تسمي نفسها دولًا الولوج إلى التاريخ إلا من بوابته.
عجزت أموال النفط أن تكون له ندًا رغم فقره وبؤسه، وعجزت الشعوب المحيطة به رغم غناها الفاحش، واستقرارها النسبي أن تشاركة شيئًا من تسيّده على التاريخ رغم محاولاتها المستمرة، فلم يستطع المال والنفوذ مجتمعًا تغيير الحقائق التاريخية ، و المعالم الجغرافية رغم المحاولات المستمرة .

عجزت أموال النفط حتى أن تجرِّد كلمات حسين المحضار، وعبدالله هادي سبيت من هويتها، ووقفت حيل السُّرَّاق أمامها عاجزة عن انتزاع ألحانها الملتصقة بها كجلدها، كما عجزت عن منع صوت الراحل الكبير بلفقيه من التحليق في فضاء الانتماء والهوية، وكما عجزت الجهود السابقة عن فصل لحم كلمات المحضار،وسبيت عن جلدها ، ستعجز الجهود اللاحقة عن انتزاع عروق شجرة دم الأخوين التي لاتقوى على الحياة إذا ما فارقت جذورها تراب موطنها الأصلي الذي لا تعرف لها موطنًا سواه،لأنها كالأسماك لاتعرف سوى أعماق البحار موطنًا لها، لذا تلفظ أنفاسها حين تجرفها شباك الصيد من الماء حاملةً إياها إلى اليابسة .

حال اليمن وحال جيرانها كحال الفقير الجميل،والغني القبيح ، فلا الفقرُ سلب الفقيرَ جماله، ولا الجمال بضاعة يستطيع الغني أن يكتسبها بماله، فظل القبيح متشوفًا إلى جمال الفقير الذي لايمكن أن يكتسبه بالمال، وخائفًا في نفس الوقت أن يغادر الجميل الفقير دائرة فقره، لأن مآساة القبيح حينها ستتضاعف إذا ما جمع الفقير ما يمكن اكتسابه،وما لايمكن اكتسابه معا.

مقالات الكاتب