رحلة البحث عن الموت

في وطنِِ لم يعد تعاقب الليل والنهار فيه بالنسبة للإنسان سوى وسيلة للاقتراب من القبر فقط ، فكل شيئ في تراجع إﻻ الموت فهو في إزديادِِ ونماءِِ ، يُوزَّعُ في كل مكان، في المدن،والبوادي، في السهول، والوديان، وعلى قمم الجبال ، حتى وصل إلى أماكن لم يصلها من قبل فولج المساجد ،وانتشر على جوانب الطرق،وافترش الأرصفة، فوصل إلى إماكن لم يصلها من قبل رغم أنه البضاعة الرائجة التي لم يشهد سوقها كسادًا منذ خمسين عامًا خلت، وهو عمر محاولة هروب الإنسان في هذا البلد من عالم الموت إلى عالم الحياة .
خمسون عامًا سقطت خلالها أنظمة، وجاءت أخرى ، سقط من يُسمُّون الطغاة ، وحكم من يسمون أنفسهم الثوَّار ، تهاوات خلالها أركان الرجعية،ثم عادت، صعدت إلى الحكم القوى التقدمية، ثم توارت، تغيَّرت الوجوه والهيئات ، وتبدَّلت الأسماء، والصفات، وظل الموت قاسمًا مشتركًا بين هؤﻻء جميعًا ، به بدأ الأولون ، وبه ختم الأخرون ، تغيَّرت الشعارات، واختلفت التوجهات، وتعارضت الأهداف، وتصادمت الغايات، اتفقت حقب الزمان، واختلفت ، وظل الموت مشروع كل الذين مرَّوا من هنا .
خمسون عامًا اقتطعتها الثورة من عمر اليمن - شمالًا وجنوبًا - خطت يد الزمان على جبين البشر والحجر عبارة ( هنا إنسان ينتظر الحياة ) ثم مضت ؛ لم تختلف عن بعضها سوى في شكل المقابر الفرديَّة والجماعيَّة، وصفوف الطوابير الطويلة للأيتام والأرامل الذين ينتظرون الحياة .
خمسون عامًا تراجع فيها كل شيئ إﻻ الموت ظل وﻻ زال الغاية التي يسعى الأحياء للوصول إليها، والنهاية التي حط الأموات رحالهم تحت ظلالها، وبين البداية والنهاية مرحلة برزخية ، تملاؤها الشعارات الرنانة، التي تأز إلإنسان للموت إزًا ، وتسوقه سوقًا إلى مهاوي الرَّدَى ، بعد أن سيطرت فكرة الموت على عقل الإنسان ووجدانه ، فتحوَّلت الفكرة إلى ثقافة ، أكسبها قراع أحداث السنين صدىً تاريخيًا ، وبعدًا فلسفيًا ، فتحوَّلت إلى ثقافة مجتمع؛ يدور الإنسان في فلكها مجبرًا . بعد أن قدَّست هذه الثقافة الموت قتلًا ، تقديسًا أظفى عليه في وجدان أفراد المجتمع سموًا ومهابةً ، حتى صار أقصر الطرق الموصلة للمجد ، والخلود، وقرين للرقي والتقدم ! بعد أن قرَّرت هذه الثقافة أن المجد ﻻ يُشيَّد إﻻ بالجماجم، مهمة لم يكن فيها العقل حاضرًا ؛ سوى في جزئية بسيطة هي توجيه الأفراد في اختيار الطريقة، والوسيلة التي يموتون بها فقط ،فأصبح القبر مكانًا للتباهي أكثر مما هو حفرة تأوي رفاتًا ؛ حال عمقها دون رؤية من آوى إليها ، وحبس اللَّحد ما يصدر عنه من روائحِِ كريهةِِ ، فتاريخنا كتبت فصوله بدماء الأبطال ، فالبطل في مفهوم هذه الثقافة هو المحارب الذي قاتل وقتل فقط ! شرطان أساسيان (القتال والقتل ) فمن قاتل ولم يقتل كان شرفه مبتورًا لا يؤهله إلى الخلود، والسكن في مراقد الأبطال، الذين تجود القرائح في وصف مآثرهم ، لإتيانه بفعل ناقص لم تكتمل فيه الشروط والأركان .
حتى مفهوم التقدم الذي يُعدُّ علامة للرخاء ، والإزدهار ، والعيش الكريم ، فالموت في مفهوم هذه الثقافة يعد سببه الذي أوجده ،وأساسه الذي قام عليه.
تشرئبُ أعناقنا بأبائنا الذين قتلوا ، وﻻنكلف أنفسنا حتى السؤال لماذا قتلوا ؟ وفي سبيل ماذا ؟ وﻻ نرفع رأسًا بأب أفنى عمره في سبيل الحياة ، فقولك : أبي قتل مدعاة للفخر ، ومجلبة للشرف،والتُّميَّز ، وقولك : أبي مات كلمة ﻻيلتفت إليها الناس ،لمرورها العابر في أسماعهم ، فالأولى تزينت بتيجان الموت ونياشينه ، والأخرى ﻻيزينها سوى ثوب الحياة . ليس مهمًا الغايات التي قتلوا من أجلها ، فحضور كلمة (قُتِلَ ) الطاغي على عقل السامع ووجدانه، يكفل للمقتول مكانته ؛ وأن قدَّم روحه في سبيل الطاغية (س ) الذي قُتِلَ الأب دفاعًا عنه ، وقُتِلَ الابن من أجل الخلاص من ظلمه وجبروته، فقد التقت نهاية الأب والابن في مصبِِ واحدِِ ، وهي الطريقة التي غادرا بها هذا العالم ؛ وأن اختلفت الغايات، والأهداف، إلا إنها أدَّت إلى نهاية مرضية لهما جميعًا ، فكلمة قُتِلَ ﻻتزال ممسكة بتلابيب الزمان والمكان، والعقل والوجدان معا.
فقبل أن تفكر في الإفلات من هذه القبضة ، فكر مليًا في الخلاص من هذه الثقافة .

سعيد النخعي
عدن 22/ مارس /2017م

مقالات الكاتب