الحرية والكرامة كما يراها السلاليون والمناطقيون

الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الكلمات الأكثر شيوعا في اليمن ، والأكثر دورانا على ألسنة اليمنيين ، اورثها كثرة الدوران خفة النطق ، وطول الاستخدام ركاكة المعنى ، وافرغها إسراف التداول من دلالتها اللفظية والمعنوية معا . كل الذين مروا من هنا تكلموا عن الحرية الحمراء ، وتحطيم الأغلال ، وكسر القيود ،فأمتلأت كل زوايا اليمن وأركانه جعجعتا ولم يرَ اليمنيون طحينا ، تحدث كل الذين مروا من هنا عن بطولاتهم ، وتضحياتهم ، ومأثرهم التي لن تفلت من قبضة الذاكرة ، أو تضيع في سراديب الزمن ؛ حتى إذا ما انقشع عهدهم لم يجد الناس إلا سرابا .

حولت الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة المناطقين والسلاليين إلى ذواتٍ منتفشةٍ غروراً ، غرورو يستمده المناطقيون من فلسفتهم العريقة القائمة على قداسة المنطقة الصغيرة التي أنطلقوا منها ، ويستمده السلاليون من شرايين دمائهم التي تمدهم بالحق الإلهي ، تقاطعت مصالح المناطقيين الذين لايشكلون سوى 1% من سكان الجنوب ، والسلاليون الذين لاتصل نسبتهم إلى 10 % من سكان الشمال .

لايرى المناطقي نفسه إلا حاكما ، ولايرى السلالي نفسه إلا حاكما ، سيطرت هذه الفلسفة على عقول المناطقيين والسلاليين ، وأصبح الحكم داءً متحكما بعقولهم الظاهرة والباطنة . كلما دار الزمن دورته وجد نفسه وجها لوجه مع هاتين الفئتين دون غيرهما ، وفي كل منعطف يقابلونه بوجه جديد ، وشعار جديد ، ومظلومية جديدة ، ينسلخون من جلد إلى أخر ، يتنقلون من حضنٍ إلى حضنٍ، ومن وصي إلى وصي ، وفي كل مرة يصرون أنهم وجدوا حضن أمهم الدافئ ، وعادوا إلى كنف أبيهم الحصين .

المناطقيون أبناء شرعيون للحقبة الماركسية ، والسلاليون أبناء شرعيون للحقبة الإمامية ، ثابت في شهادة ميلادهما ، ومحفوظ في سيرتهما التاريخية ، ومقطوع به من تحليل جيناتهم الوراثية .

انتقل السلاليون فجأةً من من حض جارتهم مملكة أل سعود التي ظنوا في ستينيات القرن الماضي أنها أمهم حين أنهارت مملكتهم فجأةً ؛ فلم يجدوا بجوارهم غير جارتهم فارتموا في حضنها أمي ، أمي فضمتهم إلى صدرها ببرودٍ ولم تنطق بكلمة ابني ، ابني ! وانتقل المناطقيون في تسعينيات القرن الماضي من حضن الدب الروسي الذي وضعوا بيضهم في سلته ، فتهشم مع أول هزة ضربت أركان الكرملن ، قبلتهم التي أخذوا عنها مفاهيم التقدم ، واالشعارات الثورية ، فأنطلقوا بسيوفهم الخشبية يحاربون طواحين الهواء ، لم يوقف معاركهم العبثية سوى ارتطام تمثال البرونز لفلادمير للينين في الساحة الحمراء ؛ معلنا إنتهاء صلاحية المنظومة الإشتراكية ؛ فوجدوا أنفسهم كاللقيط الذي لايعرف له أبا ولا أما ، فارتمى هو الأخر في حضن جارته العجوز الفقيرة التي اشبعها لعنا ،في عنفوان الحماس الثوري ، فوهم المناطقيون إن جارتهم العجوز الفقيرة أمهم فتهافتوا مهرولين إلى حجرها ، أمي ، أمي ، فضمتهم بلؤم إلى صدرها ولكنها هي الأخر لم تنطق بكلمة ابني ، ابني !

كعادته ؛ دار الزمن دورته ، فتفرس الوجوه ، وأمعن النظر في الملامح ، فوجدها هي هي ، لم تسلخ سوى جلودها فقط ، أما العقلية هي هي ، والفلسفة هي هي ، لم تتغير ولم تتبدل ، إذا مت عطشا فلا هطل المطر بعدي ، شبقٌ سلطوي مغلف بشعارات ثورية آخاذة تسلب قلوب الجماهير والبابهم ، وتتخذ من بؤسهم مظلومية تدغدق بها عواطفهم ، وتتخذ من ظهورهم مطايا للوصول إلى السلطة .

الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة في في مفهوم السلاليين والمناطقيين هي السلطة ، ولاشيئ غيرها ، فالسلطة عند الفئتين قيمة علياء ، عجز ثقلهم السياسي والاجتماعي والجغرافي أن يوصلهم إليها ، فسلكوا طرقا ملتوية تقوم على ثقافة الفرز ، وخلق التمايز السلالي والمناطقي ليسهل ضرب مكونات المجتمع ببعضها ، واشغالها بنفسها لكي تسهل السيطرة عليها ، ثقافة تقوم على خداع الجماهير ، ودغدقت عواطفهم بدلا من إقناعهم ، عملا بنصيحة ميكافللي : ( إذا خفت من تمرد الأتباع فأوهمهم أن مصالحهم مهددة كي يلتفوا حولك ) بينما هم في الواقع يلفون حبال التبعية حول رقابهم ، ويوثقون أنفسهم بقيود الطاعة العمياء ، والتعصب النتن .

الديمقراطية في نظر المدرسة السلالية والمناطقية هي التشبث بالسلطة ، واحتكارها من دون الناس ؛ وليس التبادل السلمي لها كما يعرفها العالم المتمدن ، لأن معيارها في نظر المدرستين الدم السلالي ، والإنتماء المناطقي ، وليس المواطنة والكفاءة .

جرب الشمال حكم السلالة ، وجرب الجنوب حكم المنطقة ، فلم تخلف التجربتين منجزا حضاريا ، أو معلما تنمويا ، أو طفرة اقتصادية ، أوعدلا ، أو رخاءً أقتصاديا ، أو مساواة اجتماعية ... لم تخلف سوى المقابر الجماعية ، وطوابير طويلة من الأيتام والأرامل الذين لايزالون ينتظرون الحياة ! ... ولكن إياك إياك أن تتعرض لأياً من التجربتين ، بنقد أو نصيحة ، وإن فعلت ذلك ؛ فأنت في نظر المناطقيين مناطقيا جلدا تعمل على شق الصف ، وفي نظر السلاليين عميل للعدوان الأمريكي الصهيوني يجب قتلك ، وتفجير منزلك ، وتهجير أسرتك ؛ وهذا جزاء كل من يقف في طريق المسيرة التي بال عليها الزمن .

مقالات الكاتب