إلى صديقي العاطفي المتعصب

أكتب إليك يا صديقي ، علني أثنيك عن مسلكك ، والأخذ بيدك ؛ ﻻ أقوال إلى جادة الصواب ، لأن مسألة الرأي فيها مساحة للنسبية ، ولكن للعودة إلى رق العقل ، فهو خير وأنفع من فوضاء العواطف .

فرب رق خير من حرية ، وﻻ تفهم من عباراتي هذه أنني أعلو من شأن حقبة الرق والمشاعية ؛ ﻻ والله ، ولكني أقرب لك مفهوما في أبسط صورة ، فأبتدي معك التاريخ من أول حقبه ، و قراءته من أول صفحه ، والتدرج في صعود سلم التجربة من أسفله ، لأن هذا هو السير الطبيعي للأحداث ، والطريقة الأمثل للاستنتاج العقلي ، فالمنطق يحتم علينا أخذ الأشياء بالتدرج من أسفلها ﻻ من أعلاها ، فالصعود من الأسفل يورث السلامة ، ويقي من السقوط في مهاوي الردئ ، بعكس الانقضاض من الأعلى كما يفعل المغامرون ، الذين ﻻيقدرون أبعاد الأمور ، وﻻ يعملون حسابا لمآﻻتها ، لأنهم في حل من كل شيئ إﻻ مما تتشربه نفوسهم الأسنفجية من مطمع أو مغنم .

أثبتت التجربة الإنسانية - واليمنية جزء منها - إن الذين يتخذون من العقل أداة للتفكير ، والاستنباط ، والقياس ﻻيشطحون فوق واقعهم ، وﻻ يثقلون ظهور أبلهم كما يفعل العاطفيون بمحامل الوهم التي يوثقوها بحبال الكذب ، لأنهم ﻻيعقدون الآمال على غيرهم ، وﻻيبالغون في التهويل من إمكاناتهم ، وﻻيزدرون قدرات خصومهم ، وأن خيل إليك أن القوم مقيدون بأغلاق السبب والنتيجة ، فهذه القيود ضمنت لهم استمرارية الحياة في عالم الواقع ، مهما كان ضيقا ، بخلاف أصحابك الذين ﻻيحكم أفعالهم نظام، وﻻيستند تفكيرهم إلى منطق .

ففي حين هرب أصحابك من رق العقل خوفا من الوقوع في أسر قانون السبب والنتيجة ، ولم يحتملوا النظر إلى أغلاقه وقيوده ، أنطلقوا من ضيق يابسة الواقع ، إلى سعة الجزء الأكبر من هذا الكوكب ؛ ميممين وجوههم نحو أمواج المحيطات المتلاطمة ، فافتتن العاطفيون بصفاء الماء ، وبهاء منظرة ، وسعة حيزة الذي لايدرك منتهاه البصر ، وانبهروا بزرقة السماء حين رفعوا روؤسهم إليها فوجد جماﻻ أخرى ، فأهتدوا إلى استحالة عقد المقارنة بين ثرى الأغلاق ، وفضاء الجمال .

أدمن العاطفيون التحليق في سماء الفضاء ، فأورث فيهم خوفا من مواجهة الواقع ، كان سببا في هروبهم إلى مجاهيل الفضاء البعيدة ؛ يمتطون في سفرهم إلى المجهول أما ظهور أمواج البحار ، أو معتلين صهوات الكواكب و النجوم ، في حين ألف أصحاب المذهب العقلي البقاء على الأرض ، وألفوا النظر إلى ترابها الأغبر ، وأورثهم أدمان استخدام قانون السبب والنتيجة حذرا دائما من عواقب أي أعمال يقدمون عليها ، فتجدهم يكثرون في حياتهم استخدام كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ لفك شفرة طلاسم الأحداث ، كي يضمنوا تطويع الحاضر لخدمة المستقبل ، ويستعينون بها في تحليل بقايا أثار الماضي ، فيستخرجون مما خلفته السنون الخوالي التجربة و الخبرة ، فكبح الحذر جماح التحليق خارج غلاف الواقع ، وحدت قيود السبب والنتيجة من الفشل ، و التخفيف من أثار السقوط وتبعاته ، لأنهم حين يسقطون ؛ يسقطون من مسافات قريبة ، وهذا يضمن لهم النهوض مرة أخرى ، خلافا لاصحابك الذين يتخذون من العواطف أداة للتفكير ، وسيلة لفهم الحاضر ، وتفسير المستقبل ، فذهابهم البعيد في البحث عن الأسباب ؛ وتحليقهم خارج فضاء الواقع ، جعل من مشاريعهم عبارة عن ردود أفعال طائشة ، وأماني مندفعة ، كإندفاع أمواج البحار حين تقذف بها الرياح العاتية من أعماق المحيطات ، فتعود حزينة منكسرة بمجرد وصولها أول مرفأ في اليابسة ، أو تتردئ من أعالي السماء ، فتتلاشئ ؛ فيختفي أثرها من الوجود ، وهذا سبب عدم أنتفاع خلف العاطفين من تجارب أسلافهم .

مقالات الكاتب