مشهد اليمن الموسيقي: لحظة احتفاء وأيام من القلق

لا يزال المشهد الموسيقي في اليمن غامضاً ومبعثراً، يعاني من غياب الرؤية الواضحة، رغم وجود محاولات متفرقة من وقت إلى آخر لإحياء الأغنية اليمنية. وبينما تُطلق بين الحين والآخر إصدارات موسيقية متواضعة، تبقى الصورة العامة قاتمة، ولا توحي بقرب حدوث طفرة نوعية تُعيد للموسيقى اليمنية مكانتها المرموقة. وقد بدا هذا واضحاً حتى مع مناسبة يوم الأغنية اليمنية الذي صادف الأول من يوليو/ تموز الحالي، إذ لم يشهد هذا اليوم انفجاراً فنّياً حقيقياً، بل بقي في نطاق التفاعل المحدود والمتكرر سنوياً.

المفارقة أن أكثر ما لفت الانتباه في هذا التوقيت لم يكن أغنية طربية أو إنتاجاً حديثاً، بل زامل حماسي بعنوان "سليت سيفي"، يمثّل تطويراً لزامل قديم بعنوان "الوفاء ما تغيّر"، الذي أدّاه المنشد الحوثي لطف القحوم قبل نحو عشر سنوات، قبل أن يُقتل في جبهة هيلان بمحافظة مأرب مطلع عام 2016 أثناء مشاركته في القتال ضمن صفوف جماعة الحوثي. هذا الزامل الجديد، وعلى الرغم من كونه خطاباً تعبوياً سياسياً يحمل مضموناً عقائدياً يخدم الجماعة، فقد انتشر في اليمن، ولاقى تفاعل شرائح لا تؤيد الحوثيين بالضرورة، بل من فئات مناوئة، ما يثير تساؤلات حول قدرة الزامل على مزاحمة الأغنية اليمنية، بل وتجاوزها حتى في مناسبات مخصصة لها.

أكثر ما يلفت في زامل "سليت سيفي" ليس أنه يعود إلى أحد أشهر منشدي الحوثي، عيسى الليث، بل أتى بأسلوب مختلف، امتزج فيه الطابع الزاملي مع بعض عناصر الشيلة الخليجية، إضافة إلى خفوت الحس الإنشادي والتعبوي المعتاد. يبدو أن رواجه تزامن مع تصاعد دور الحوثيين في المشهد الإقليمي، لا سيما بعد تدخلهم عسكرياً في البحرين العربي والأحمر واستهدافهم الملاحة المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، وفق ما تروجه الجماعة دعماً لغزة. هذا البعد السياسي والإعلامي لعب دوراً غير مباشر في تسويق الزامل عربياً، خصوصاً مع تصاعد الاهتمام الإعلامي بالقضية الفلسطينية.

هذه المعطيات تضعنا أمام مفارقة مركّبة؛ فبينما تُهمّش الأغنية اليمنية، يظهر الزامل، بوصفه خطاباً تعبوياً، على أنّه أحد أبرز تجليات المشهد الموسيقي – إن جاز اعتباره كذلك – في اليمن اليوم. وهو مشهد مشوّش تتداخل فيه الأيديولوجيا مع الثقافة، والسياسة مع الفن، فتختلط الحدود بين الغناء بوصفه فعلاً فنياً حراً، وبين النشيد التعبوي المؤدلج.

رغم هذا التداخل، لا تزال هناك محاولات متواضعة لاستعادة حضور الأغنية اليمنية، خصوصاً في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي، وأحياناً في الميدان العام. وكانت مدينة تعز – التي دأبت منذ سنوات على إحياء يوم الأغنية اليمنية – مسرحاً لفعاليتين في هذا السياق، نظمتهما مؤسسات مجتمع مدني. ويُنظر إلى هذه الفعاليات بوصفها جزءاً من جهود متواصلة تهدف إلى الحفاظ على الموروث الموسيقي، والتصدي لمحاولات محاصرته تحت ذرائع دينية أو أيديولوجية.

إنتاجياً، لم يحمل يوم الأغنية معه سوى إصدارات معدودة، ما يعكس أزمة الإنتاج الموسيقي في اليمن عموماً. من بين هذه الإصدارات، أغنيتان للفنان الشاب إبراهيم فضل، إحداهما بعنوان "نفسي أضيع"، التي تميزت بمزجها عناصر من الموسيقى اليمنية التقليدية مع إيقاعات عالمية مثل الريغي والـR&B والبوب، ما يمنحها طابعاً حداثياً وجذاباً. كذلك، أعادت المغنية هديل حسين إصدار أغنية "قمر يماني" بأسلوب جديد، إذ سرّعت الإيقاع، وأبرزت صوت الكيبورد، ما أعطاها دفعة في الانتشار، رغم طابعها اللحنّي القريب من الأغاني الطفولية أو الإنشادية.

بدوره، حافظ الفنان حسين محب على خطه الموسيقي المعروف، بإصدار أغنيتين جديدتين على أنغام العود والإيقاع اليمني التقليدي. رغم بساطتها اللحنية، تحمل "انسى" طرباً خفيفاً وشعوراً بالبهجة. أما الفنان محمد الخولاني، فقد قدّم أغنية بعنوان "لا بتوحشني ولا هم يحزنون"، تنتمي إلى النمط الشعبي الصرف، مستخدماً المزمار الجبلي، والطبول الصاخبة الخاصة برقصات البرع، ما يمنحها صخباً محلياً يُحبّذه جمهور واسع، لكنه قد يحد من انتشارها خارج الإطار المحلي.

وبالعودة إلى تعز، يتفق ناشطان في المجال الفني، هما سام البحيري رئيس منظمة ميون، وحنين الأغواني مديرة مؤسسة "سطور" (وهي مغنية أيضاً)، على أهمية يوم الأغنية اليمنية في تعزيز الهوية الثقافية ومواجهة محاولات طمس التراث الغنائي. يرى البحيري أن هذا اليوم يمثل موقفاً في مواجهة التيارات التي تسعى إلى تجفيف منابع الفن والموسيقى، مؤكداً ضرورة دعمه ليصبح رافعة لصناعة موسيقية قادرة على التنافس محلياً وإقليمياً، وعلى خلق فرص اقتصادية وإبداعية.

أما حنين الأغواني، فتؤمن بأن هذه المناسبة تمثل نافذة لإخراج الأغنية اليمنية من "الأرشيف المنسي" إلى الشارع، خصوصاً في ظل الجيل الجديد الذي نشأ في زمن الحروب والانقسامات. وتدعو إلى تعزيز هذا اليوم كمناسبة تربط الشباب بإرثهم الفني، وتشجعهم على إنتاج فن حديث لا ينسى جذوره.

ورغم أهمية هذه الجهود، لا تزال الصناعة الموسيقية في اليمن تعاني من العشوائية، وضعف التنظيم، وغياب الدعم المؤسسي. فالإنتاج إما تقليدي يتكئ على التراث بأسلوب تقشفي، أو محاولات فردية تتراوح بين التجريب والارتجال، وغالباً ما تنتهي من دون أثر يُذكر. ولا وجود بعد لقاعدة إنتاج متينة أو نظام يحمي الحقوق الفكرية ويشجع المواهب؛ إذ لا يزال كثير من المغنين الشباب يرفعون أغانيهم على "يوتيوب" بتسجيلات بدائية، وغالباً من حفلات زفاف، من دون اهتمام بجودة الصوت أو بالصورة.

تبقى إحدى المشاكل المتكررة هي نظرة المجتمع لبعض المغنين، واتهامهم بالانتماء إلى ما يُعرف بـ"الشواترة"، أي الفئة المرتبطة بالغناء في الأعراس والبيئة الشعبية البسيطة، ما يكرّس الفجوة بين الفن الشعبي والصناعة الموسيقية الحديثة، ويعمّق من أزمة الذوق العام.

في النهاية، يبدو أن يوم الأغنية اليمنية لا يُعبّر فقط عن لحظة احتفاء، بل عن لحظة قلق؛ إذ يُسلط الضوء على واقع هشّ، يفتقر إلى البنية التحتية، وتهدده النزاعات والانقسامات، ويكاد يُختزل في مبادرات فردية. ورغم وجود تجارب واعدة ومحاولات متكررة، إلا أن غياب الدعم المؤسسي، وضبابية الرؤية، واستمرار التحديات الاجتماعية والسياسية، يجعل مستقبل الأغنية اليمنية معلقاً بين الأمل في الاستعادة والخوف من الاندثار.

المصدر: العربي الجديد