الحنكة السياسية للوفد اليمني المفاوض مع بريطانيا ودوره في انتزاع الاستقلال

المدنية أونلاين/فؤاد مسعد:

في سبتمبر 1967م أعلن قحطان الشعبي أحد أبرز قادة الجبهة القومية، استعداد الجبهة للتفاوض مع بريطانيا، بصفتها الممثل للشعب في جنوب اليمن، ولكن الجبهة رفضت كل المحاولات لإشراك الأمراء والسلاطين الموالين لبريطانيا في المفاوضات المرتقبة، كما رفضت أي محاولة للتسوية بمشاركة حزب الرابطة ومن تصفهم الجبهة بالمستوزرين، وهم الذين تقلدوا المناصب في الحكومة التي شكلتها بريطانيا تحت مسمى (اتحاد الجنوب العربي)، وذلك بهدف مواجهة ثورة أكتوبر.

وكانت الجبهة القومية ترى أن ما يجري في عدن وبقية مناطق الجنوب حرب تحرير وطنية تقودها الجبهة نفسها، وبالتالي فيجب التعامل مع الوضع وفق هذه الحقيقة، خاصة وأن قضية الجنوب صارت مطروحة في الأمم المتحدة، وقد صدرت عدة قرارات بهذا الشأن تؤكد على حق تقرير المصير، ووجوب رحيل الاستعمار.

وفي أبريل 1967 أرسلت الأمم المتحدة بعثتها إلى عدن، لكنها لم تتمكن من تنفيذ المهام الموكلة إليها، بسبب التصعيد الذي قادته الجبهة القومية وأدى إلى تزايد وتيرة الأحداث والعمليات التي تستهدف ثكنات الاحتلال البريطاني، وصدرت بيانات القوى الثورية تعبر عن رفض حلول الوسط والتسويات السياسية التي لا ترتقي إلى مستوى تحقيق آمال الشعب في الاستقلال الوطني ورحيل الاستعمار الأجنبي. بيد أن سيطرة الجبهة القومية على غالبية المناطق في جنوب اليمن جعلها تتصدر المشهد، وتوالت إعلانات المسؤولين البريطانيين عن اقتراب لحظة المغادرة وتسليم السلطة للثوار.

مبادئ الثورة وخطوط الاستقلال

وضعت قيادة الجبهة القومية الخطوط الرئيسية للمرحلة القادمة، كما رسمت خطتها للتحرك وإدارة شؤون المناطق التي صارت تحت سيطرتها، وبالنسبة لموقف الجبهة القومية من التفاوض مع بريطانيا فقد أعلن قحطان الشعبي، أن موقف الجبهة يتضمن المبادئ التالية:

• تحقيق الاستقلال الفوري وانتقال السيادة إلى الحكومة الوطنية، والتأكيد على وحدة أراضي الجنوب بما في ذلك الجزر، وهو ما يؤكد رفض سياسة الاستعمار التي كانت قائمة على قاعدة (فرّق تسُد)، حيث قسمت مناطق الجنوب إلى أكثر من 22 سلطنة وإمارة ومشيخة، وجعلت منها مستعمرات ومحميات، ولكل واحد من هذه الكيانات سلطاته الخاصة وحدوده الإدارية والجغرافية.

• رفض الاتفاقيات العسكرية بما فيها الاتفاقيات الدفاعية، على أن تقوم بريطانيا بتسليم ممتلكات الجيش الذي كان قائماً في الجنوب إلى حكومة الثورة.

• رفض الأحلاف السياسية ورفض الانضمام إلى الكومنوولث، ومقاومة أي قيود سياسية، والمطالبة بإلغاء كل الاتفاقيات السابقة التي أبرمها الاستعمار مع السلاطين والأمراء ومع الاتحاد الذي شكلته بريطانيا كواجهة سياسية وإدارية لمشروعها الاستعماري في جنوب اليمن.

• رفض القيود المالية والاقتصادية، مع الموافقة على البقاء في منطقة الجنيه الإسترليني فترة مؤقتة تكون قابلة للتجديد أو الإلغاء، وتقوم الجبهة القومية بطلب مساعدات مالية غير مشروطة.

وتكشف هذه المبادئ عن موقف ثابت ورؤية سياسية واعية، ذلك أن تحديد هذه المبادئ قبل الخوض في المفاوضات يجعل للتفاوض إطاراً محدداً، بحيث يقود إلى الاستقلال الناجز، بعيداً عن الحلول المنقوصة والتسويات المبتورة عن سياقاتها الوطنية، بحيث يبقى بريطانيا نفوذها في الدولة الجديدة حتى بعد الإعلان الرسمي عن مغادرة الاستعمار، بيد أن التفاوض وفق ما أعلنته الجبهة القومية من مبادئ يجعل طريق المفاوضات يسير في اتجاه واحد ومحدد، وهو الاستقلال الوطني، والتخلص من الاستعمار وكل أدواته وتوابعه ومخلفاته.

مفاوضات جنيف وانتزاع الاستقلال

في الـ11 من نوفمبر 1967 تسلمت الحكومة البريطانية – عبر وزير خارجيتها، رسالة من الجبهة القومية، سلمها المناضل سيف الضالعي- رئيس المكتب السياسي للجبهة القومية، وتضمنت الرسالة التأكيد على أن الجبهة القومية تعبر عن الإرادة الشعبية، وأنها تتولى السلطة الفعلية في الجنوب، كما كشفت الجبهة القومية في رسالتها أنها شكلت وفداً أوكلت إليه مهمة التفاوض مع بريطانيا، بهدف نقل السلطة إلى حكومة وطنية، واقترحت الجبهة تحديد 20 من الشهر (نوفمبر) موعداً للمفاوضات، وبدورها وافقت بريطانيا على المفاوضات مع وفد الجبهة القومية، كما تم الاتفاق على أن تكون المفاوضات في مدينة جنيف.

وتشكل الوفد الوطني المفاوض كما يلي:

– قحطان محمد الشعبي رئيساً.

– سيف الضالعي عضواً.

– فيصل عبداللطيف الشعبي عضواً.

– عبدالفتاح إسماعيل عضواً.

– خالد محمد عبدالعزيز عضواً.

– عبدالله صالح عولقي عضواً.

– محمد أحمد البيشي عضواً.

– أحمد علي مسعد سكرتيراً.

ويساعد الوفد عشرة من المستشارين بينهم امرأة وعسكريان برتبة مقدم.

وفي المقابل تشكل الوفد البريطاني من 14 عضواً برئاسة اللورد شاكلتون، بالإضافة إلى 2 مترجمين.

تحرك الوفد الوطني اليمني- وفد الجبهة القومية صوب مكان المفاوضات في جنيف في 19 نوفمبر، لكنه قرر التوقف عند محطة مهمة على الصعيد الوطني اليمني والقومي العربي، وهي القاهرة، قاهرة مصر الثورة التي كان لها الدور البارز بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر في دعم الثورة اليمنية شمالاً وجنوباً، وقد كان ذلك قراراً تاريخياً صائباً وعلى قدر كبير من الأهمية، ذلك أنه يؤكد على الدور المصري الرائد في دعم الثورة ومواجهة قوى الاستعمار الأجنبي، خاصة بريطانيا التي كانت تناصب مصر وعبدالناصر العداء، فهي كانت تحتل مصر عشرات السنين حتى قامت الثورة المصرية في يوليو 1952، وهي إلى جانب ذلك الحليف الأبرز للاحتلال الإسرائيلي، وقد تشارك الطرفان (الإسرائيلي والبريطاني) ومعهما فرنسا في شن العدوان الثلاثي على مصر، سنة 1956، ثم كان الدعم البريطاني حاضراً بقوة في دعم إسرائيل في حربها ضد مصر في يونيو 1967، لذلك كان قرار الثوار اليمنيين بالتشاور والتنسيق مع القيادة المصرية معبراً عن الوعي السياسي والبعد القومي، سيما وأنهم الآن في طريقهم لانتزاع حقهم وحق وطنهم في الاستقلال عن بريطانيا، وإنهاء حقبة من الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن استمرت قرابة 130 سنة.

وخلال لقاء الوفد بالرئيس عبد الناصر تم التوافق والتنسيق حول الموقف الإعلامي، كما تم التشاور على محادثات الاستقلال، وتم الاتفاق على أن يحضر المفاوضات ممثل عن الرئيس عبدالناصر، بحيث يكون قريباً من الوفد اليمني المفاوض، ليقدم له العون والمشورة اللازمة، وفي اللقاء وعد الرئيس ناصر أن تكون مصر أول من يعترف بالنظام الوطني فور إعلان الاستقلال.

بعدها تحرك الوفد إلى بيروت، وهناك عقد مؤتمراً صحفياً، حظي بمتابعة واسعة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، ثم انتقل الوفد المفاوض إلى جنيف، لتبدأ المفاوضات في 21 نوفمبر، وتستمر حتى 28 من الشهر نفسه.

بدأت مفاوضات جنيف بالحديث عن ترتيبات الاستقلال، وكان أعضاء الوفد البريطاني يتحدثون حينها عن جنوب اليمن باسم (الجنوب العربي)، وفق التسمية التي اخترعوها ضمن مشروعهم الرامي إلى تمزيق البلاد، بينما أصر الوفد الوطني اليمني على اعتماد الاسم الحقيقي وهو جنوب اليمن المحتل، وكانت تلك إحدى مسائل الخلاف، لذلك فقد أصر البريطانيون على الاسم الذي يعترفون به، بينما تمسك الوفد الوطني بموقفه النابع من رؤيته الثورية الشاملة للهوية الوطنية اليمنية بمكوناتها الحضارية والتاريخية والجغرافية.

وعندما جاء الحديث عن الاسم المقترح للدولة الجديدة كان جواب الوفد: جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وبعدها تعدل الاسم ليصبح: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

في 29 نوفمبر تم تويع الاتفاق الذي تضمن 17 بنداً أكدت على إنهاء الاحتلال البريطاني، وإحلال الاستقلال على كافة الأراضي والمناطق التي كانت تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، ليتم إعلان الاستقلال الوطني في الـ30 من نوفمبر 1967.

وفي صباح ذلك اليوم وصل الوفد المفاوض إلى عدن قادماً من جنيف، واستقبلته الجماهير اليمنية بالهتافات والأغاني الوطنية وعمت الفرحة كل اليمن برحيل الاستعمار وإعلان قيام الدولة الوطنية.

تم تعيين قحطان الشعبي- رئيس الوفد الوطني رئيساً للجمهورية، وأعلن هو تشكيل حكومة برئاسته على النحو التالي:

– قحطان الشعبي- رئيس مجلس الوزراء.

– سيف الضالعي وزيراً للخارجية.

– علي سالم البيض وزيراً للدفاع.

– محمد علي هيثم وزيراً للداخلية، والصحة بالوكالة.

– محمود عشيش وزيراً للمالية.

– عبدالفتاح إسماعيل وزير الثقافة وشؤون الوحدة اليمنية.

– فيصل عبداللطيف الشعبي، وزيراً للتخطيط والاقتصاد.

– عادل خليفة، وزيراً للعدل والأوقاف.

– فيصل بن شملان وزيراً للأشغال والمواصلات.

– محمد عبدالقادر بافقيه وزيرا للتربية.

– عبدالملك إسماعيل وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية.

– سعيد عمر العكبري وزيراً للإدارة المحلية، والزراعة والإصلاح الزراعي بالوكالة.