رؤوفة حسن

المدنية أونلاين ـ متابعات :

 

للدكتورة رؤوفة حسن حضور قوي ومؤثر ليس على طلابها أو الوسط الأكاديمي والصحفي والحقوقي اليمني فحسب، بل على المستوى العربي، لتغدو رؤوفة حسن اسم “عصي على النسيان”.

تقول الدكتورة سلوى الشرفي استاذة الإعلام والاتصال بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس IPSI لـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم: “أتذكر رؤوفة كثيرًا، فهي امرأة يصعب نسيانها.. أتذكر وجهها المتحرر من النقاب وثقافتها العالية وجديتها في البحث العلمي و نضالها المستميت من أجل حقوق المرأة العربية عامة و ليس اليمنية فقط”.

وأضافت استاذة الاعلام والاتصال لـ أنسم: ” التقيتها لأول مرة منتصف الثمانينيات في تونس وكانت حينها تعد بحثها للدكتوراة في جامعة السوربون، كنت حينها خبيرة في المنظمة العربية للثقافة والعلوم الإلكسو، وكان لقاءها مع مدير المنظمة الدكتور محي الدين صابر- المختص في الأنثروبولوجيا- وكانت تناقشه بكل ثقة حول نتائج بحثه الذي خصصه لإحدى القبائل البدائية في السودان، فسألها: لماذا تبحثين في هذه الأمور الشائكة يابنتي؟ فأجابت: وصية أمنا الملكة سبأ؟”.

“عرفتُ حفيدة سبأ مناضلة جسورة واكاديمية من طراز نادر، ومتحدثة بارعة.. عرفت رؤوفة التي لا تكل ولا تمل يومًا، وعندما عرفت حكايتها منذ طفولتها عرفت من أين جاءت رؤوفة بكل هذه القوة في مقاومة أفكار مجتمع والانتصار للذات” قالت الشرفي.

 

طفلة مختلفة

في العام 1968 قادت طفلة العاشرة – التي انهت دراسة الصف الرابع ابتدائي – صديقاتها باتجاه مكتب رئيس الوزراء حسن العمري، احتجاجًا على منعهن من مواصلة دراستهن بحجة منع الاختلاط، إذ لم يكن هناك مدارس مخصصة للفتيات حينها.. انتصرت رؤوفة لنفسها وبنات جنسها، وظلت تقاتل من أجل ذلك متخذة منه مبدءًا تسبب لاحقًا في اتهامها بالكفر.

اثناء اول ظهور لرؤوفة في برنامج الطفال مع بابا عبد الرحمن 1970

يتذكر الاستاذ عبد الرحمن بجاش – زميل دراستها في مدرسة سيف بصنعاء – أن رؤوفة كانت فتاة مختلفة جريئة وقوية وكانت تصر على لعب الكرة معهم رغم أنها ترتدي الشرشف “سألعب معكم غصبًا وأكون الجوالة”.

في حي الطبري بصنعاء القديمة ولدت رؤوفة في 14 ديسمبر 1958 تحمل اسم أمة الرؤوف حسين الشرقي، لأسرة اشتهرت بالقضاء منذ 800 عامًا، وارتبطت أمة الرؤوف بالإذاعة وهي في سن الـ 12 في برامج الأطفال، إلا أن شغفها بالعمل الإعلامي ظل يدفعها بقوة للاستمرار، لكنها لم تعُد طفلة لتسمح لها الأسرة بذلك.

في حوار صحفي في 2004 قالت رؤوفة حسن أن “العمل في الإذاعة مطلع السبعينيات كان عيبًا ويشبه إلى حد كبير العمل في مجال الرقص أو أكثر جُرمًا منه -من وجهة نظر الأسر المحافظة- باعتباره خروجًا عن العادات والتقاليد”.

فكان الاسم “رؤوفة حسن” الذي اقترحه لها وزير الإعلام عبد الله حمران، هو المخرج من هذا المأزق أمام الأسرة التي لن تعرف صوت رؤوفة القادم من أثير الإذاعة، لكن ذلك لم يدُم طويلًا.

يقول الأستاذ عبد الرحمن بجاش -وهو زميل دراسة ومهنة لها- في مقال له أنه عندما سألها عن كيف استطاعت أن تخفي نفسها عن أهلها، أجابته: “كان أبي وأمي كلما يسمعان الإذاعة يقولان لي “في بنت بتجي في الإذاعة صوتها مثل صوتك”، فأشيح بنظري بعيدًا: ماشي مش أنا..”.

يسألها بجاش “وعندما عرفوا؟”،  فتضحك وتقول: “باركوا لي.. كان الناس جميعا يحلمون”.

ارتباط بالذاكرة

رؤوفة حسن أثناء برنامج (أنا وأنت وهو) في التلفزيون

ارتبط الاسم “رؤوفة حسن” بذاكرة الناس كما ارتبط بشخصيتها فلم تعمد إلى تغييره حتى بعد معرفة الأسرة بعملها في الإذاعة التي أصبحت فيها فتاة الـ 15 موظفة رسمية عقب انتهائها من الاعدادية، ” تمت تسميتي بهذا الاسم و استمررت عليه إلى اليوم فقد اشتهرت به وأصبح معروفًا ولم أستطع التخلي عنه”، قالت رؤوفة في حوار صحفي.

منتصف السبعينيات انتقلت الفتاة الجريئة واللبقة للعمل في التلفزيون عقب افتتاحه في صنعاء، ولم تكتفِ بالتقديم، بل أصبحت تعد برامجها في تقديم البرامج الحوارية بنمط غير تقليدي.

وحقق برنامجها ” أنا هو وأنت” شهرة كبيرة وكانت تستضيف فيه مسؤولين في الدولة وكبار الشخصيات لتطرح أسئلتها بقوة وجرأة حول مختلف القضايا، إلا أن البرنامج الأشهر(صور من بلادي) الذي ظل مرتبطًا بذاكرة الأجيال واشتهر به الراحل “محسن الجبري”،  كان فكرتها وأول من عمل عليه.

لم تستمر رؤوفة في التلفزيون كثيرًا وغادرت إلى القاهرة لتواصل تعليمها الجامعي لكنها لم تتخلى عن شغفها، إذ كانت تعود عبر برامج متقطعة خلال إجازاتها الصيفية.

رؤية وتأمل

في العام 1980 عادت رؤوفة حاملة الإجازة في الصحافة وحينها أصدر لها وزير الإعلام حينها “يحيى العرشي” توجيهًا باستيعابها في صحيفة الثورة الرسمية لتكون أول امرأة في الصحيفة، فتولت رئاسة قسم التحقيقات، وكان لها عمود بعنوان “رؤية وتأمل” يعكس رؤيتها لما حولها.

يبدو أن العمل الرسمي لم يكن ليوافق هوى الشابة المتجددة المتطلعة بعيدًا في الأفق.. “كانت تحمل كل يوم ثلاجة الشاي للعمل وعند سؤالها عنها تردد المثل الصنعاني (لو ضاق حالش زغفتيلش قهاوي)” يقول الاستاذ عبد الرحمن بجاش.

بحسب المثل الصنعاني فشرب القهوة الكثير دليل ضيق الحال، لتترك رؤوفة العمل في الصحيفة وتسافر للولايات المتحدة لدراسة الماجستير وتنجز دراستها حول “تنمية الاتصالات” في1984.

كالنحلة لا تتوقف، عادت ليتم تعيينها في المكتب الفني لوزارة الثقافة والإعلام، لكنها كالعادة لم تستمر طويلًا وغادرت مجددًا إلى فرنسا لتعود وقد أنجزت الدكتوراة في “علم الاجتماع الريفي الإعلامي 1991″، لتتجه بعدها للعمل الاكاديمي في جامعة صنعاء التي لم تكن قد اعتمدت “الإعلام” مجالًا للتدريس الأكاديمي بعد.

عيــــــال رؤوفـة

تدين العديد من الأجيال المتعاقبة من الصحفيين للدكتورة رؤوفة حسن بتحقيق أمنياتهم ليكونوا كذلك منذ 1991 عندما أسست قسم الإعلام في كلية الآداب بجامعة صنعاء، والذي تحول لاحقًا إلى كلية مستقلة 2006.

ربما لم أكن محظوظًا بالتتلمذ على يد الدكتورة رؤوفة حسن عندما التحقت بكلية الإعلام في 2002، وعندما جئت إلى تونس أواخر العام 2014 لدراسة الماجستير في أول محاضرة كانت الدكتورة سلوى الشرفي في معهد الصحافة تجلس على المنصة، وعندما عرفت إنني من اليمن، قالت مبتسمة: “أنت من أولاد رؤوفة إذن”، فشعرت بالزهو، لم تكن الدكتورة رؤوفة أم ملهمة بالنسبة لنا، لكنها كانت اسم كبير يتخطى حدود المكان والزمان والفكر، اسم نُعرَف من خلاله.

تقول التونسية اعتدال مجبري مديرة مركز التدريب الإعلامي في مركز المراة العربية للدراسات والتدريب (كوثر) بتونس،  لـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم: تعرفت على الدكتورة رؤوفة حسن لأول مرة بداية التسعينات وكنت لازلت طالبة في معهد الصحافة، نُظمت حينها ندوة عربية كان ضمن مواضيعها: المرأة والإعلام، وما أذكره من تلك الندوة: صوت رؤوفة حسن الواثق وإتقانها الرهيب للغة العربية وملكة الخطابة التي برز تمكنها منها بشكل كبير”.

وأضافت:” 15 دقيقة لم تُنسني -حتى الآن- امرأة جاءت من مجتمع كنت أجهله وقامة طبعت بدايات اهتمامي بالصحافة وحقوق المرأة”.

 

إذن: نحن “عيال رؤوفة”، واللقب الذي أُطلق تندرًا بملتحقين قسم الإعلام – منذ تأسيسه مطلع التسعينيات – غدا لقبًا نفخر به ونُعرَف من خلاله.

تقول فاطمة مطهر عضو المجلس التنفيذي لنقابة الصحفيين لـ أنسم: “منذ تأسس قسم الإعلام في كلية الآداب كان الملتحقون فيه يتعرضون للسخرية، وينعتون باسم “عيال رؤوفة” وكان عميد الكلية -حسين الباكري- دومًا يحرص على أن يتم اغلاق القسم ويردد أمامنا أنه قسم لا فائدة منه ويجب إغلاقه”.

وتضيف: ” تعلمت من أول محاضرة أنها تحاسب على كيفية ما نقوله لا على ما نقول، وهذا درس يعلِّم كيف تكون ملمًا ومقنعًا وممتلئًا بآرائك وقناعاتك، وأن تبنيها على حجة ومنطق”.

وأردفت: “لا شئ يمر أمامها دون تحليل وتفسير و استقراء واستنتاج واستنباط، ستقول مفردة أمامها، عليك أن تعرف معناها ليس فقط اللغوي ولكن تعريفها وما تعنيه لك”.

تجد مطهر صعوبة كبيرة للحديث عن استاذتها، “أن تختزل رؤوفة في مادة محددة الكلمات أمر منهك جدًا، ستثير رؤوفة حسن برأسي الكثير من التساؤلات والأولويات و جدلها المنطقي” قالت لـ أنسم.

الجـندر و “الكفر”

الدولة، الدستور، القانون، المواطنة، المساواة، الحقوق وغيرها، مفردات كانت تسكن ذلك الجسد النحيل بإيمان وحماس بأن “التغيير قادم” لبناء يمن حديث متقدم وناهض، يمن لا يشبه إلا نفسه حضارة وقيمًا.

بدأت رؤوفة العمل “المدني” مبكرًا من خلال جمعية المرأة اليمنية العام  1975 والتي أصبحت رئيسة لها خلال 1980-1981 وخرجت مع عدد من نساء الجمعية للمطالبة بخلع اللثام “النقاب” وحرقنه.

ظلت قضايا النساء وأدوارهن ومشاركتهن السياسية محور نضالها فأسست وحدة دراسات المرأة في جامعة صنعاء  في العام 1993 الذي أصبح في 1996 مركز الدراسات والبحوث النسوية ومعه بدأت رؤوفة مرحلة جديدة من الصعاب والمتاعب.

 منتصف سبتمبر 1999 عقد المركز مؤتمرًا دوليًا كبيرًا في صنعاء حضره مختصون من جميع المراكز النسوية في العالم يمثلون 56 دولة تحت عنوان “تحديات الدراسات النسوية في القرن الـ 21”.

تعرضت رؤوفة خلاله للعديد من المتاعب والتحريض واتهمت بالكفر وسُخِّرت منابر 129 مسجدًا لمهاجمتها، وأصدرت ضدها ثلاثة اشرطة ملأت الشوارع وبيعت في الجولات وأمام المساجد والجامعات والمدارس: “الجندر يغزو اليمن”، “القردة المقلدة” و “مؤمرات ومؤتمرات”.

واكب ذلك أيضَاً ضجة إعلامية معارضة ومعادية للمركز وتم تكفيرها وتهديدها وأسرتها بالقتل، فآثرت رؤوفة بعدها أن تغادر اليمن في 15 أكتوبر 1999 للتفرغ العلمي في الجامعة الهولندية وحينها أشيع أنها فُصلت من الجامعة وهربت إلى هولندا وطلبت اللجوء.

تقول رؤوفة في حوار صحفي: “لم أهرب ولم أطلب اللجوء وكنت قد ودعت المؤتمر في آخر يوم له 14 سبتمبر وقلت أن عندي فترة تفرغ لمدة عام بالاتفاق مع جامعة صنعاء والجامعة الهولندية”.

خلال الفترة 1999 و2003 عملت رؤوفة مُدرسة في جامعات أوروبية مختلفة: جامعة أولبرخ في هولندا، وجامعة أولدمبرخ بألمانيا، كما عملت مستشارة للأمم المتحدة في البرنامج الإنمائي في اليمن وتونس ولبنان.

رداء الدولــة 

غطاء الرأس المميز الذي كانت تعتمره رؤوفة، بات تقليدًا للعديد من الفتيات والصحفيات والناشطات.. قالت رؤوفة في مقابلة صحفية أنها ترتديه باعتباره “لمسة يمنية قديمة” فنصفه الأعلى عبارة عن “مشدة” رجالية وبمجرد وضع جزئه الأسفل على الرقبة يتحول إلى “اللثام” الذي كانت تضعه اليمنيات قديمًا.

من خلال غطاء الرأس المميز هذا ندرك تمسك رؤوفة بالهوية الوطنية التي ظلت هاجسًا ومشروعًا تعمل على إنجازه، وعندما عادت في 2004 – رغم التهديدات التي لم تتوقف – تفرغت لمؤسسة تخطيط برامج التنمية الثقافية التي انشأتها مطلع التسعينيات، فكان مشروع “رداء الدولة” وهو مشروع يتعلق بدراسة الهوية والتاريخ وحوار الحضارات والثقافات عبر الملابس الرسمية للسياسيين في كل من اليمن وألمانيا.
“الزي الوطني لا يتم إلا عندما تشعر ماهو الوطن، وكيف تكون دلالاته، وان يكون لديك فخر به، وأن يكون عندك باللبس انتماء له” قالت رؤوفة.

وداع رؤوفة:

“أودعكم وأفرغ قلمي من حبره وستسكت شهرزاد عن الكلام المباح”، هكذا ودعت الدكتورة رؤوفة أبناءها ومحبيها في آخر مقال كتبته وهي على فراش المرض في القاهرة لتغادرنا قبل تسعة أعوام، صباح يوم الأربعاء 27 أبريل 2011.

المصدر | مادة خاصة بـ البوابة اليمنية للصحافة الإنسانية – أنسم