صنعاء القديمة: نموذج للعمارة الخضراء

المدنية أونلاين ـ متابعات :

في العام 1986، صَنفت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم “اليونيسكو” مدينة صنعاء القديمة، ضمن مواقع التراث العالمي، واختارتها باعتبارها “تحفة عبقرية خلاقة من صُنع الإنسان". وإحدى القيم الإنسانية الهامة والمشتركة، سواء في تطور الهندسة المعمارية أو التقنية، أو الفنون الأثرية، أو تخطيط المدن، أو تصميم المناظر الطبيعية.

وطبقا لليونسكو، بنيت مدينة صنعاء في واد جبلي يرتفع الى 2200 متر عن سطح البحر. وأصبحت مأهولة بالسكان منذ أكثر من 2500 سنة. وتحولت المدينة في القرنين السابع والثامن الى مركز هام لنشر الإسلام، فحافظت على تراث ديني وسياسي يتجلى في 106 مساجد و21 حماماً و6,500 منزل طيني داخل مدينة دمجت الطبيعة بالبيئة العمرانية، وهي تعود الى ما قبل القرن الحادي عشر. أما المساكن البرجية المتعددة الطبقات ومنازل الآجر القديمة فهي تزيد الموقع جمالاً.

العمارة اليمنية متقدمة بيئياً

تعد العمارة اليمنية بمدينة صنعاء القديمة جزءً من التراث العالمي الإنساني، الذي يجب الحفاظ عليه، وقد تميزت صنعاء، بنمط عمراني متفرد تمخض عنه نسيج عضوي لمدينة نتج عنها تراث عمراني كان له القدرة على تلبية كافة متطلبات واحتياجات قاطنيها بما في ذلك المتطلبات البيئية.

ووفقاً لدراسة علمية، نشرتها مجلة جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، في اغسطس 2010، بعنوان “التراث العمراني البيئي لمدينة صنعاء بين الماضي والحاضر”. فإن مدينة صنعاء أوجدت معالجات معمارية وتخطيطية أدت إلى جعل المدينة القديمة وكأنها كائن حي يأخذ من بيئته ويعطيها دون ضرر أو ضرار.

بيوت صنعاء: جاذبة لحركة الشمس والهواء

وتفيد الدراسة التي أعدها الباحثان: الدكتور عبد المطلب محمد علي، أستاذ العمارة والتحكم البيئي، بجامعة العلوم والتكنولوجيا، والباحثة سميرة صالح الشاوش، المدرس المساعد بكلية الهندسة جامعة صنعاء. أن قدامى المعماريين اليمنيين اعتمدوا في تشكيل وبناء صنعاء القديمة، على أسس ومبادئ بيئية وظيفية وتقنيات محددة تراعي البيئة على نحو مستدام ومدهش، أهمها التوجه المعماري للانفتاح إلى الخارج بدلا عن الداخل.

وبحسب الدراسة، فقد اعتمد قدامى المعماريين اليمنيين طريقة بناء منازل صنعاء، على أسلوب البناء العمودي بارتفاع من 4-6 طوابق مدمجة بالشكل المكعب، كما اعتمدوا على توجيه الفضاءات بحيث تتبع حركة الشمس والرياح للحصول على الإضاءة والتهوية المطلوبة. ومعظم منازلها مبنية باتجاه الجنوب، لجذب أكبر كمية من الاشعاع الشمسي خلال فترة الشتاء.

صنعاء نموذج للعمارة الخضراء

قبل أكثر من 1000 سنة، سبقت مدينة صنعاء القديمة، مدن العالم في تقديم نموذج العمارة الخضراء في مبانيها البالغ عددها 6,500 منزل مبني بمواد طبيعية محلية من الحجر والطين والطوب والخشب، وهي مواد غير ملوثة للبيئة، تقاوم تأثير المناخ والعزل الحراري وعوامل التعرية، وتؤمن المتانة والثبات للمباني. وتكمن الميزة الفريدة في تصميم المنازل بأنها صممت كي تتبع حركة الشمس والهواء للحصول على اضاءة وتهوية طبيعية.

وتبيّن الدراسة، أن صنعاء القديمة محاطة بمساحات وفضاءات خضراء من بساتين ومقاشم وحدائق على منوال فريد ومتقدم للغاية، حيث تبين بالمسح أن المساحات الخضراء في صنعاء تشكل نسبة خمس 1/5 اجمالي مساحة المدينة القديمة. حيث يوجد لكل حي/حارة مساحة خضراء واسعة تخصها.

كانت لهذه المساحات الخضراء في صنعاء القديمة وظائف بيئية واقتصادية، فهي تعمل على تنقية الهواء وتخفيف درجة الحرارة، وتبريد الطقس، ورفع نسبة الرطوبة، وامتصاص اشعة الشمس المباشرة. كما أن البساتين والمقاشم والحدائق شكلت فضاءات لزراعة كافة أنواع الخضروات التي يحتاجها سكان كل حي. وتفيد الوثائق التاريخية أن سكان الحارات في صنعاء كانوا مكتفون ذاتياً من الخضروات التي يحتاجونها للغذاء من خلال هذه البساتين او المقاشم.

أن مدينة صنعاء القديمة تحوي العديد من الملامح والفكر البيئي بمفردات تخطيطية وتصميمية يمكن دراستها وتطويرها وتطبيقها على العمارة الحديثة، وقد سبقت بذلك عبر تحقيقها لتلك التطبيقات البيئية بعض ما يعرف في وقتنا الحالي بمبادئ العمارة الخضراء.

اليوم، من الواضح جداً، أن معظم المهندسين المعماريين في صنعاء، فشلوا في تأصيل الأساليب المعمارية التي تتميز بها صنعاء القديمة عند تخطيط العمارة الحديثة، ولم يتمكنوا من الاستفادة منه أو حتى تطوير تقنياته. فبمجرد النظر لشكل مدينتي صنعاء القديمة وصنعاء الحديثة، تجد أن الأخيرة مدينة مشوهة، وبلا هوية أو تراث معماري. وبلا مساحات خضراء. وبدون فكر بيئي، يراعي متطلبات السكان.

إن معظم المباني السكنية الحديثة في العاصمة صنعاء اليوم، والتي شيدت خلال السنوات الأخيرة، تحاكي بتصاميمها الهندسية نمط البناء في دول المنطقة كالبناء الأردني والخليجي

لقد تخلى المعماريين المحليين عن تأصيل التراث المعماري اليمني الفريد والزاخر منذ القدم. وهذا ما يفسر بالضبط سبب تردي جودة الحياة البيئية والعمرانية في صنعاء الحديثة بشكل مستمر.