العرب والهروب الكبير
كم مرة اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسجد الأقصى، وكم مرة اقتحمت جنين، أو ضربت غزة؟ لا أحد يتذكر، ولا أحد يهتم. لماذا؟ لأن كل واحد منا أصبح غزة، أصبحت قلوبنا مخيمات لاجئين، وكل وطن أصبح فيه مخيم جنين، وفلسطين محتلة.
العربي الذي كان يغضب كان العربي الأخير، وهذا مضى لحال سبيله، يبحث عن أقرب قارب متهالك يركبه في اتجاه الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، تاركاً القضايا والأوطان للوطنيين الجدد والتجار الذين غيروا فقط تسمية الماركات التجارية لمزيد من خداع المستهلكين للشعارات والصرخات. أصبحنا منشغلين بقضايا أخرى، وأعيد حقن أوردتنا بدماء جديدة، وقيم مغايرة، وأصبح لك من يحاول تذكيرنا بأننا أمة واحدة، أو جسد، أو فلسطين محتلة، أو عروبة أو إسلام، أو صحابة أو أولياء، اصبح مثار سخرية من أغلب من يسمعه ويقرؤه، بعد أن احتكر اللصوص أوصاف الفرسان، وتحدثوا باسم جميع الأديان، وأصبح الجمهور لهول ما يرى يهرب من نشرات الأخبار إلى ألعاب التسالي، وما تجود به «سناب شات» و«تيك توك» من مشاهد مركبة، عله يجد فيها بعض الأفيون الذي يأخذه بعيداً عن مواكب الهاربين من حريق الأوطان وزعيق المحللين السياسيين ونشرات الأخبار.
إذا تكلم اليمني عن مأساة فلسطين هاجمه يمني آخر بأن لديك وطناً أحق بالبكاء عليه، وإذا كتب السوري عن «النكبة» ذكَّره سوري آخر بأن نكبة فلسطين تهون أمام النكبة السورية التي تذكرنا بدخول التتار بغداد، أما بغداد – على ذكرها ـ فلا يزال المغول القادمون من الشرق يحرقون تراثها، ويقوضون ثقافتها، ويقتلون الآلاف من رجالها ونسائها وأطفالها، كما فعلوا قبل قرون.
من يهتم لنشرة التاسعة مساء؟ ومن لا تزال لديه الرغبة في مطالعة عناوين الأخبار، بعد كل هذا الحريق الذي نراه يلتهم الأوطان والقيم والأديان والأحلام.
أنت إذا حاولت أن تطالع الأخبار حاول من حولك أن يمنعوك، وذهبوا يقلبون القنوات علهم يقعون على قناة ترفيه، أو ربما انصرفوا للشاشة الأصغر يبحثون فيها عن مقاطع مضحكة على تويتر أو الفيسبوك، بعيداً عن صرخات النساء وفجائع الأطفال التي تتفجر بها العناوين في الشاشات الملطخة بالدماء.
الأدهى من ذلك أننا لا شأن لنا، لا شأن لنا بأوطاننا وشعوبنا وثقافتنا وماضينا وحاضرنا، ولا شأن لنا بشؤوننا، كما قال يوماً شاعر اليمن وناقدها الكبير عبدالعزيز المقالح، وكل يوم تخرج من هذه الأوطان دفعات من الأدمغة والشباب والقدرات والكفاءات، لتبقى في تلك الأوطان العصابات واللصوص يسرحون ويمرحون، دون أن يوقفهم أحد.
دعونا اليوم نبكي، على الأقل لنشعر ولو قليلاً بأننا أسهمنا ـ ولو بالبكاء ـ في رفع المعاناة بالمواساة على طريقة شوقي الذي قال مخاطباً ابن زيدون:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نشجى لوادينا
واليوم ينشغل كل صاحب «طلح» بطلحه، وكل صاحب وطن بوطنه، ولم نعد معنيين بشؤوننا إلا بالقدر الذي يسمح لنا الغريب به، لأن هذا الغريب قد دخل الطلح، ويريد إعادة ترتيب أوضاعه، وصياغة قواعده وقوانينه.
لا بأس بقليل من البكاء، فأمرؤ القيس الكندي هو جدَّنا الأول الذي علمنا البكاء، ومن يومها ونحن نجيده شعراً ونثرا، وقد جعل العرب قصيدته ضمن باب المعلقات لأنها فجرت فيهم البكائيات على الأحبة والأوطان، بقوله:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسقط اللِّوى بين الدخول فحومل
وهاهو العربي يهجر المنزل اليوم على متن أول رحلة طيران، أو أول قارب يبحر للمجهول، أو أول قطار مغادر إلى أية جهة لا يوجد بها «منزل» يقف على أطلاله امرؤ القيس.
أتلقى رسائل لا تحصى من قراء ومتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي يريدون الخروج، أحاول أن اقول لهم إن الغربة تسرق منا أغلى ما لدينا، لتمنحنا لا شيء، فيرفضون، نريد أن نخرج، نريد أن نهاجر، نريد أن نذهب إلى أي مكان، حتى إلى الجحيم، لكننا لم نعد نحتمل. هكذا كتب أحدهم، فيما محاولاتي تذهب أدراج الرياح.
الروائية والكاتبة العربية أحلام مستغانمي كتبت مرة تقول: «انفرطنا كحبات سبحة، ولن يلملم أحد بعد اليوم حلمنا بالوحدة، فقد استفردوا بنا وطناً وطناً، حد اعتيادنا رؤية الدمار ومشهد أوطاننا تختفي تحت الأنقاض، فما عدنا معنيين سوى بإنقاذ أنفسنا».
أصبح الشاطئ الأوروبي للمتوسط غاية العربي الذي تغنى سنوات طويلة بحب الأوطان، وأصبح الآخر أقرب علينا من الذات، هذا الآخر الذي دخل بيننا، وأصبح يحل مشاكلنا، ويرسل مبعوثيه للسلام، لإخراجنا من حروبنا الأهلية التي ما تهدأ (حتى لا أقول لا تنتهي) في بلد إلا لتتفجر في بلد آخر. هل كان يطرأ على بال جمال عبدالناصر وهواري بومدين وفيصل بن عبدالعزيز مثلاً أن إسرائيل «ستدعو السودانيين مثلاً إلى الجلوس على مائدة المفاوضات»؟ أو أن الولايات المتحدة ستكون بطلة تحرير الكويت من العراق؟ وهل كان أحد يتصور أن يتكلم نظام كهنوتي في إيران باسم القضية الفلسطينية، وأن يتبناها زوراً، وهو الذي جعل في كل بلد عربي تحكمت به ميليشياته فلسطيناً وقدساً وكربلاء؟!
هل تعرفون الشاعر الذي قال يوماً:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
هذا «البدُّ» الذي ألجأ البعض ـ مثلاً ـ إلى صداقة إسرائيل ليستفيد من صداقتها، والذي جعل البعض الآخر يعادي إسرائيل ـ كذلك ـ ليستفيد من عداوتها، هذا «البدَّ» الكريه ما كان له أن يكون، لولا أننا أصبحنا تطبيقاً عملياً لمطلع آية تنص على: «يخربون بيوتهم..».، وعندما خربنا بيوتنا عدنا نلقي باللائمة على هذا الفريق دون ذاك، وأكثرنا براءة، وأقلنا جرماً هم الذين جاؤوا وطنهم عشاء يبكون.
على كلٍ، لا أنوي هنا البكاء على أطلال، ولا استدعاء تاريخ «رثاء الممالك» في تاريخنا العربي الإسلامي، ولكنها تأملات في حبات هذه السبحة التي تتناثر منذ أمد بعيد، يختلف المؤرخون حول مدته، ولا يختلفون حول حقيقة تساقط حبات سبحته. هذه السبحة التي انفرطت في بلدان وأصقاع وبحار وجزر شتى، من بريطانيا التي وصل إليها الأخ مدسوساً داخل شاحنة بضائع، إلى فرنسا التي وصلها الأخ الآخر عبر قارب نجا من الموت بأعجوبة، إلى كندا حيث الأخت، فنيوزيلاندا، حيث الشقيقة الأخرى، وعدد آخر من المدن والبلدان التي ضمت شتات هذه المسبحة العربية التي لا تكف عن التسبيح والبكاء.
ربما تمادينا مع مزاج سوداوي، لكننا نتعب أحياناً من صناعة المسكنات، ويحدث أن يضع الكاتب قلمه جانباً، ليترك الفضاء الأبيض لقلبه ودمه وشعوره، دون محسنات بديعية أو مجازات، بعد كل هذه السنوات من الأحلام المهشمة، والبلدان التي خبأت انتكاساتها في تجاعيد لغة لم تعد تصلح باستعاراتها لتجميل وجه هذا القبح الذي ينبعث في وجوهنا من شعارات الميليشيات، وصرخات تجار الحروب، ومهربي البشر عبر البراري والبحار، ومدمني هذا الأفيون القاتل على طول تلك الرقعة الممتدة من الماء إلى الماء.
هذه ليست دعوة للبكاء على الأطلال، قدر ما هي دعوة للتأمل العميق في المآلات، إنها دعوة لا للوقوف على الأطلال، ولكن للوقوف على الأحوال، وإثارة السؤال: لماذا؟ وكيف؟، ما ومن؟، أين ومتى؟، وغيرها من الأسئلة التي لا بد لنا من مواجهتها إذا أردنا الخروج من هذا التابوت الرهيب.
* نقلاً عن القدس العربي