اليمن "وقف" للإمام!
قبل شهور تداولت مؤسسات مختلفة تتبع ميليشيات الحوثيين في صنعاء مشروع إقامة منشآت دينية حديثة في قلب مدينة صنعاء القديمة المصنفة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وقبل أسابيع نشر الحوثيون تصاميم للمخطط الجديد الذي ينوون تنفيذه في قلب المدينة التاريخية، غير آبهين بحقيقة أن هذه الإنشاءات المستحدثة ستضر بوضعية صنعاء على قائمة التراث العالمي الذي لا يجب إحداث أي تغيير فيه وفقاً للوائح اليونسكو.
هذا ليس موضوعنا، الموضوع سيدور حول التبرير الذي بموجبه يخطط الحوثيون لبناء هذه المنشآت التي يمكن أن تكون على شكل مزار ديني باسم الإمام علي بن أبي طالب مكان الأسواق التقليدية التي تحوي مئات المحلات الصغيرة التقليدية في قلب المدينة القديمة، حيث برر الحوثيون ذلك بالقول إن تلك الأسواق هي «وقف الإمام علي بن أبي طالب» زاعمين ـ على خلاف التاريخ الثابت ـ أن الإمام وصل إلى صنعاء وتجمع الناس حوله للاستماع إليه، وبالتالي فإن كل تلك المساحات التي تشكل جزءاً كبيراً من صنعاء القديمة أصبحت وقفاً للإمام، ويجب أن يقام فيها بناء قال مسؤولون يمنيون في عدن وصنعاء إنه سيكون مزاراً دينياً جديداً تهدف الميليشيات من ورائه لتحقيق أهداف أيديولوجية وسياسية واقتصادية مختلفة.
وقبل أيام خرج أحد رجال الدين الحوثيين ليقول إن منطقة غرب صنعاء الواسعة المسماة «عصر» هي وقف «حبَّسها (أوقفها) الأمير الحسن بن حمزة بن داوود في القرن السابع للهجرة» أي قبل أكثر من سبعة قرون، زاعماً أنه تم العثور على وثيقة الوقف تلك بعد سيطرتهم على صنعاء عام 2014، وبالتالي فإنه، وحسب الوثيقة يجب أن تعود منطقة «عصر» التي تشكل جزءاً كبيراً من العاصمة اليمنية «وقفاً» يُقسم رَيْعُه على ثلاثة أثلاث حددها كالتالي: الثلث الأول يكون من نصيب «العلماء والمتعلمين والقراء والمقرئين والمفيدين والمستفيدين في جامع صنعاء» الذي يديره الحوثيون، والثلث الثاني من نصيب «الفقراء الساكنين في صنعاء من الهاشميين الفاطميين من ذرية الحسن والحسين» حسب وصفه، والثلث الثالث يُعطى لـ«عابر السبيل الذي يأتي إلى الجامع الكبير» و«ما فاض من هذا الثلث الأخير (يكون) للعلماء والمتعلمين في عصر» الذين هم ملاك الأرض الأصليون الذين يراد لهم أن يعيشوا على ما فاض من عائدات ثلث أرضهم التي يراد أن تكون وقفاً تشرف عليه سلطة الحوثيين، «إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها» حسب تلك الوصية المزعومة.
وقد فوجئ سكان المنطقة، كما فوجئت الأوساط السياسية والإعلامية اليمنية بهذا «الوقف» المزعوم الذي يراد بموجبه أن تصادر منازل وأراضي اليمنيين التي توارثوها جيلاً بعد جيل، بزعم أن شخصاً ما جعلها وقفاً قبل مئات السنين، وهي المزاعم التي بموجبها صادر الحوثيون أراضي واسعة في محافظات: الحديدة وحجة وصعدة والمحويت وصنعاء وإب وذمار والجوف وغيرها بذريعة أنها كانت وقفاً لأئمة سابقين، أو أنها أراض تعود ملكيتها لدولة أولئك الأئمة قبل مئات السنين.
وقد أورد آخر تقارير لجنة خبراء الأمم المتحدة مصادرة الحوثيين لأراضي المواطنين في أكثر من منطقة، وذكر التقرير مصادرتهم لمساحة تقدر بقرابة 13 مليون متر مربع من أراضي السكان في مديرية واحدة فقط من محافظة الحديدة، هي مديرية بيت الفقيه، ناهيك من أراض أخرى في المحافظة قدرت قيمتها بـ190 مليون دولار، وهذه الأراضي تعود لمواطنين وقبائل ثبتت ملكيتهم لها وتوارثوها على مدى قرون طويلة.
وقبل فترة ادعى بعض المنتسبين للحوثيين أن محافظة الحديدة كلها وقف، وكذا أجزاء واسعة من أراضي قبيلة بني مطر غرب صنعاء، وقبل ذلك أراض زراعية لقبيلة بني حشيش شمال شرق العاصمة، وقبلها سيطرت سلطة أوقاف الميليشيا على أراض في مديرية همدان غرب العاصمة كذلك، إضافة إلى أراض وجبال ومسارب السيول في مناطق مختلفة، أبرزها في منطقة سعوان شمال العاصمة.
وكان الحوثيون قد بدأوا تلك العمليات عندما سيطروا على أراض في محافظة عمران تتبع أولاد الشيخ الراحل عبدالله الأحمر رئيس مجلس النواب اليمني الأسبق ادعوا أنها ملك للإمام يحيى حميد الدين، غير أن ما يدعو للسخرية أنهم عندما ينهبون الأراضي التي زعموا أنها ملك للأئمة، فإنهم لا يعيدونها لمن بقي من ذرية هؤلاء الأئمة، ولكنهم يجعلون أنفسهم أوصياء عليها، تمهيداً لمصادرتها لصالحهم. وكل ذلك بزعم أن الحوثيين وجدوا وثائق تاريخية تثبت ملكية الأئمة لهذه الأراضي التي سيطروا عليها على اعتبار أنهم ورثة نظام الأئمة القديم.
وبمطالعة النطاق الجغرافي للأراضي التي تمت مصادرتها أو التي يسعى الحوثيون للسيطرة عليها نجد أن محيط العاصمة صنعاء يأتي في المرتبة الأولى في مصادرة الأراضي، وهو ما يشير إلى نية التحكم بمناطق محيط العاصمة، وإنشاء «حزام سلالي» يتم بموجبه تمليك تلك الأراضي لأسر محددة، ما يضعف قوة «الحزام القبلي» الذي يخشاه الحوثيون حول صنعاء، وبهذا الإجراء يرى الحوثيون أنه يمكنهم إحكام الطوق على صنعاء بتمليك الموالين لها على مناطق حزام صنعاء التي يريدون نزعها من أيدي أبناء القبائل الذين هم ملاكها الأصليون.
يسعى الحوثيون لذلك خشية من تكرار سقوط صنعاء من خارجها، على اعتبار أن تلك المدينة غالباً ما تسقط من الخارج، عندما يزحف محيط المدينة القبلي عليها، وبمصادرة أراضي محيط العاصمة تريد الميليشيا التحكم بمداخل المدينة، خشية تعرض سلطة المليشيات للتمرد من خارج العاصمة، على طريقتهم عندما حققوا هدفهم بتأليب محيط العاصمة والمحافظات المجاورة على صنعاء، ومن ثم السيطرة عليها في سبتمبر 2014.
وقد أنشأت الأجنحة المختلفة داخل الميليشيات أجهزة ومؤسسات ومناصب لغرض مصادرة الأراضي ونهب المؤسسات العامة والخاصة، وأبرز هذه المؤسسات ما يسمى «اللجنة العسكرية» التي استغلت ظروف الحرب، وأقامت مناطق سمتها المناطق العسكرية منعت أصحابها من دخولها، واستمر الأمر إلى اليوم، رغم توقف عمليات القصف، وكانت تلك هي البداية، ثم تحول منع الملاك من أراضيهم إلى أمر واقع، وبدأت اللجنة العسكرية بالتنسيق مع مؤسسات أخرى لإضفاء مشروعية على سيطرة الحوثيين على تلك الأراضي التي تتم مصادرتها.
هناك كذلك «المنظومة العدلية» التي تعطي المسوغات القانونية لنهب أراضي المواطنين، ناهيك عن «سلطة الأوقاف» وما يسمى «الحارس القضائي» الذي من مهامه السطو على الأسواق التجارية والمؤسسات الأهلية، وقد تمت مصادرة أموال وممتلكات آلاف المواطنين بأوامر من الحارس القضائي، وتحت ذريعة مناصرة العدوان، كأحد مبررات نهب أراضي المواطنين عبر تلك «الأجهزة الموازية» التي تتبع مراكز قوى مختلفة داخل جماعة الحوثي وتعمل كمؤسسات استثمارية خاصة لقيادات في الجماعة حسب تقارير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة.
بقيت الإشارة إلى أن هذا المخطط المتبع في اليمن هو نسخة كربونية من المخطط الذي تتبعه ميليشيات إيران في سوريا، وعلى وجه الخصوص في مناطق العاصمة دمشق ومحيطها.
*نقلاً عن القدس العربي