النظام الدولي وتفاقم الأزمات
يقوم النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب – في جانب منه – على إدارة الأزمات وترحيلها في الزمان والمكان، وذلك لأسباب عدة، في مقدمتها أن الأزمة تمثل أحياناً للفاعلين الدوليين فرصة لا معضلة لدى بعض الأطراف، على اعتبار أن ذلك النظام صممه المنتصرون على حساب المغلوبين، لكي يخدم مصالح من صممه، بغض النظر عن مصالح بقية الأطراف فيه.
ومع ذلك فقد استطاع هذا النظام المكون من عدد كبير من الدول والمنظمات والشركات الدولية والشخصيات المؤثرة أن يخفي حقيقة كونه ممثلاً لمصالح الأقوياء، وذلك بابتكار نوع من «وهم التمثيل الديمقراطي»، ضمن بنية هيئاته الأقل تأثيراً على مصالح القوى الفاعلة في ذلك النظام.
وبنظرة سريعة إلى منظمة الأمم المتحدة ـ كجزء من هذا النظام ـ فإن الهيئات التابعة لها قد وزعت بطريقة تظهر نوعاً من التمثيل الديمقراطي الظاهري، بشكل يشعر الدول الصغيرة بأنها متساوية في كثير من الهيئات مع الدول العظمى: فصوت أصغر دولة عضو – على سبيل المثال ـ يتساوى في الجمعية العامة والهيئات الأممية الأخرى مع صوت أية قوى عظمى، لكن التصويت في مجلس الأمن يظل من حق الدول الدائمة العضوية فقط، ولمزيد من الإيهام الديمقراطي يسمح لخمسة عشر عضواً يتناوبون على العضوية بالتصويت، مع احتفاظ «الخمسة الكبار» بحق النقض. وبذلك تشعر الدول النامية بتمثيل دولي، ولكن في منظمات أممية ليس لها القوة السياسية والتشريعية التي يتمتع بها مجلس الأمن الذي تحتكره إجمالاً خمس دول في العالم.
وهكذا تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة بشكل يجعل الهيئات التي لها قوة التنفيذ في يد الأقوياء، حسب قواعد التصويت، فيما تُعطى الهيئات الخالية من تلك القوة لجميع الدول الأعضاء لتمنح انطباعاً خاطئاً بالمساواة بين الدول العظمى وغيرها من الدول الصغيرة.
وترى كثير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بأن طبيعة هذا التمثيل مجحفة، وأنها تجعل الأمم المتحدة والمنظومة الدولية برمتها حكراً على الأقوياء، لكن الكثيرين يجادلون بأنه «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، وأن هذا التصميم يتسق مع منطق الأشياء، لضرورة ألا تتاح وسائل القوة إلا لعدد قليل من الدول، كي لا تنتشر الفوضى والحروب في العالم، بغض النظر عن كون تلك الدول توظف تلك الوسائل لخدمة مصالحها، بعيداً عن خدمة الأمن والسلم الدوليين.
ومهما يكن من أمر، فإنه ليس من غايات هذا الطرح أن يتعمق في طبيعة الخلل الذي أدى إلى نوع من الشلل في فاعلية النظام الدولي الذي يقتصر فيه مفهوم «المجتمع الدولي» على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الدول، في تجسيد واضح لطبيعة الخلل المفاهيمي والقيمي والمؤسسي الذي يعتري بنية هذا النظام في نسخته المعاصرة.
ما يهم هنا هو الإشارة إلى الآثار المترتبة على طبيعة تصميم هذا النظام، وهي الآثار الناتجة عن حقيقة واضحة، وهي أن هذا النظام يمثل مصالح الأقوياء، وأن تلك المصالح – لا القيم الدولية – هي التي تحدد طبيعة تعامل هذا النظام مع الأزمات الدولية والإقليمية.
هناك – على سبيل المثال – حروب متفجرة في منطقتنا العربية منذ أكثر من عقد من الزمان، وإزاء هذه الحروب لو سألنا مواطني هذه الدول: ماذا قدم النظام الدولي لوقف الحرب وإحلال السلام، فالجواب سيكون محرجاً، حيث يمكن تسجيل ما لا يحصى من التعليقات على المستويات الشعبوية والثقافية والأكاديمية والسياسية التي تشير إلى عدم فاعلية النظام الدولي في حل الأزمات، وكأن هذا النظام قد صمم ليعمل على «إدارة الأزمات لا حلها»، لحين نضوج مجموعة من العوامل والظروف التي تهيئ لبعض المصالح الدولية أن تتحقق، وحينها يمكن أن تنضج بعض الحلول الجزئية والمؤقتة التي وإن عملت على تهدئة الصراع، لكنها تؤسس لصراعات مستقبلية أشد.
ومما يلحظ أن تلك المنظومة تحاول التغطية على العجز والفشل في حل الحروب والنزاعات باللجوء إلى أسهل الحلول القائمة على أساس اختصار تلك الصراعات والحروب في جوانبها الإنسانية، لا أكثر، وذلك واضح من خلال التركيز على «المعونات الدولية» التي تمثل جزءاً من سياسة أشمل تهدف إلى تسجيل حضور إيجابي للعامل الدولي في الأزمات الداخلية أو الإقليمية، مع ما تنتجه هذه السياسة من تحويل الشعوب التي مزقتها الصراعات إلى طوابير كبيرة من المتسولين على أبواب مكاتب ومخازن المنظمات الإغاثية والإنسانية الدولية، وبشكل يعطل قدرات الشعوب الإنتاجية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يجعل الآخر الدولي يظهر بصورة «المنقذ الإنساني» لطوابير الجوعى من أنياب الجوع الذي تسبب به لوردات الحروب في تلك البلدان، وبذا تأخذ الصورة بعداً تتعمق فيه «إنسانية الخارج الدولي»، مقابل «وحشية الداخل الوطني»، حيث يظهر الخارج أكثر إنسانية وشعوراً بمآسي شعوب المنطقة من مكوناتها الوطنية، وهو أمر وإن كان يبدو صحيحاً إلا أن صحته لا تمثل إلا نصف الحقيقة لمن يدرك كيف يعمل النظام الدولي بمكوناته المختلفة على أساس من المصالح لا القيم، وأن المساعدات تُعد نوعاً من «المال السياسي» الذي يذر الكثير من الرماد على العيون، ويغسل أيادي كثيرة من الدماء الغزيرة التي سالت، بفعل الاستثمار في الصراعات، ضمن اقتصاديات الحروب داخلياً وخارجياً.
دعونا نضرب مثالاً بسسيطاً: في شهر ديسمبر عام 2018 كانت القوات اليمنية المدعومة من التحالف العربي على بعد ثلاثة كيلومترات من ميناء الحديدة التي تحصن داخلها الحوثيون، وكان لسقوط الحديدة في يد تلك القوات أن يضعف قدرة الحوثيين إلى حد كبير على تحويل عائدات الميناء لصالح حروبهم، وتحويله إلى قاعدة عسكرية، ما يسهم في تغيير نظرتهم إزاء التمسك بالحل العسكري، لكن الأمم المتحدة والدول العظمى حينها ضغطت على الحكومة اليمنية وعلى التحالف العربي لوقف المعركة، بذريعة «الأزمة الإنسانية»، حيث تم ضخ عدد مهول من الأخبار التي تتحدث عن «الكارثة الإنسانية الأسوأ على مستوى العالم»، كل ذلك من أجل الضغط لوقف المعركة التي كانت على وشك أن تحسم.
وجاء اتفاق ستوكهولم، ليؤسس لمرحلة تجزئة الحل في اليمن، واختصار الأزمة في جانبها الإنساني، مع إغفال السبب الرئيسي للحرب، وهو انقلاب الحوثيين على النظام الذي جاء بالتوافق بعد مؤتمر الحوار الوطني في صنعاء.
واليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات على الاتفاق، تبدو المنظومة الدولية عاجزة ـ أو هكذا تريد أن تظهر ـ عن إقناع الحوثيين بالحل السلمي، بعد أن سلحتهم إيران بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، واتضح أن اتفاق ستوكهولم لم يؤسس للحل قدر ما أسس لتفاقم الأوضاع إنسانياً، والابتعاد كل يوم عن الحل الذي أشارت مجلة «أوراسيا ريفيرو» إلى صعوبته اليوم، حيث «يرفض الحوثيون الحوار لأنهم يشعرون أنهم يمكن أن يسقطوا الحكومة اليمنية بالقوة، مع تزويد إيران لهم بالسلاح اللازم».
وبطبيعة الحال فإن النظام الدولي ليس وحده المسؤول عن مآلات الأحداث في اليمن أو غيره من الدول، لكن طبيعة تركيبة هذا النظام القائمة أساساً على خدمة مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية تشير إلى أن العقول التي صممته هي تلك التي رأت أن الحروب هي التي تجلب المصالح، وبالتالي فإن تلك القوى الدولية لا تزال وعبر وسائل هذا النظام تعمل على الاستفادة من الأزمات بتدويرها ومعالجتها بشكل يدير الكثير من عجلات تصنيع السلاح، ويدرُّ الكثير من أرباح اقتصاديات الحرب المختلفة، بغض النظر عن الكثير من الدماء والمعاناة، التي يتم التعامل معها بوجه إنساني دولي يهدف إلى التغطية على الفشل في التعامل مع الأسباب الحقيقية لتلك المعاناة والدماء.
باختصار: يصعب على النظام الدولي الذي تمخض عن الحرب أن يعمل على حل النزاعات، بما أنه قائم على أساس خدمة مصالح الأقوياء الذين يرون أن جلب المصالح يمكن أن يكون عبر الحروب في كثير من الأحيان.