دردشة حول السلام في اليمن

كثرت البيانات الداعية للسلام في اليمن: الحكومة الشرعية تدعو للسلام، والتحالف والاتحاد الأوروبي، وغروندبيرغ وليندركينع، وحتى الحوثيون، الذين يستغلون كل هدنة من أجل التحشيد والتسليح، يطالبون كذلك بالسلام.

وبطبيعة الحال، البلد بحاجة إلى سلام بعد سنوات عجاف من الحرب كانت لها نتائج كارثية على كافة المستويات.

لكن هل هناك اتفاق بين الأطراف المختلفة على ماهية السلام المطلوب؟

هل سلام الحكومة اليمنية هو السلام الذي يسعى له الحوثي؟

وما هو السلام المطلوب للفئات الشعبية؟

وما هو السلام المطلوب للمصالح الدولية والإقليمية؟

وماذا عن رؤية الأمم المتحدة؟

ما هي آليات هذا السلام؟ وما وسائل تحقيقه على الأرض، وإنزاله من مستوى الشعار إلى مستوى التطبيق، وما مدى قدرة رؤى ووسائل نبتت في سياقات دولية: ثقافية واجتماعية مغايرة على اجتراح سلام في مجتمع مختلف ثقافياً واجتماعياً؟

أسئلة كثيرة تحتاج إلى توقف وفحص من قبل مختلف الأطراف الداعية للسلام.

قبل حوالي أربعة أشهر أعلن عن هدنة وافقت عليها جميع الأطراف لمدة شهرين، يتم خلالها فتح مطار صنعاء إلى عمّان والقاهرة، وميناء الحديدة بشكل أوسع، ويتم رفع حصار الحوثيين عن تعز، بالإضافة إلى وقف جميع العمليات العسكرية الداخلية وعبر الحدود، مشت الأمور على ما يرام، لكن الحوثيين يرفضون رفع الحصار عن تعز.

انتهت مدة الشهرين، وتم تمديد المهلة لشهرين آخرين، وهاهي الشهور الأربعة على وشك الانتهاء، مع مطالب بتمديد الهدنة.

لا شك أن الهدنة مهمة، حيث تنفس المواطنون الصعداء، ولو بشكل محدود، إذ نغصت الخروقات وألغام الحوثيين عيشة ملايين اليمنيين، ناهيك عن الغلاء وانقطاع المرتبات والخدمات ومنغصات أخرى كثيرة.

لكن الهدف من الهدنة المتمثل في الذهاب إلى مائدة مفاوضات ما لم يتم خلال الشهور الماضية، الأمر الذي يبدو من خلاله أن الهدنة في حد ذاتها أصبحت هي الهدف بعد العجز عن إقناع الحوثيين بالدخول في مفاوضات حل نهائي.

وفي سياق الحديث عن الهدنة، هنا بعض الملحوظات:

الأولى تكمن في تحول استراتيجية الأهداف من إحلال السلام الدائم والشامل إلى تجديد هدنة الشهرين كلما انتهت.

والثانية تتركز حول مخاطر تجديد الهدنة دون أفق سياسي، حيث يكرس ذلك واقع التقسيم على الأرض، وذلك باحتفاظ كل طرف من الأطراف الداخلية بما تحت يده من إمكانات وأرض وموارد بشرية ومادية، وهو ما يؤسس، لا لتشطير البلاد كما كانت عليه قبل عام 1990، ولكن لتشطير المُشطّر إن جاز التعبير. وهنا يتم الدفع بالصراع إلى داخل البر اليمني، بعيداً عن السواحل والممرات المائية التي تطل عليها الجغرافيا اليمنية، ثم تدخل البلاد بموجب ذلك التكتيك مرحلة «الحرب المنسية» حيث يستمر الصراع غير المؤثر على المصالح الدولية المتمثلة في «الملاحة الآمنة» في حين يدفع اليمنيون ضريبة تلك الحرب، مع دفع أخبارها بعيداً عن العناوين الرئيسية، إلا فيما يخص الوضع الإنساني، ومكافحة الإرهاب.

والثالثة تتعلق بتركيز واشنطن على الهدنة بغض النظر عن الذهاب لمفاوضات سلام، لأن ذلك النهج يرفع الحرج «الإنساني» من جهة، ويقدم ورقة رابحة للديمقراطيين الذي يريدون أن يجترحوا نجاحاً مهماً في الشرق الأوسط، بعد سلسلة من الإخفاقات على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي والملف النووي الإيراني وغيرهما، وبالتالي فإن التركيز على إدارة الأزمة في اليمن بدلاً من حلها مناسب للإدارة الديمقراطية، بعد أن أصبح الوضع في اليمن ورقة مزايدة في السجالات الانتخابية الأمريكية بين الحزبين الكبيرين.

متى بدأ التأسيس لهذه التداعيات؟

تم ذلك في اتفاق استوكهولم، وهو الاتفاق الذي أسس لعدد من الخطايا، لعل في مقدمتها أن المجتمع الدولي عمد إلى الانتقال من «الحل الشامل» إلى «الحلول الجزئية» حيث أسس الاتفاق لحل مزمن ومخصص لجزء من الجغرافيا اليمنية في الساحل الغربي للبلاد، وكانت تلك هي الخطوة الأولى في طريق طويل أفضى إلى التنازل عن الحل الشامل لصالح حل جزئي لم يتم تطبيقه على الأرض، لا جهة انسحابات الحوثيين، ولا نزع الألغام وفتح الممرات، ولا تحصيل إيرادات ميناء الحديدة لصالح مرتبات الموظفين، ولا رفع حصار تعز، ولا أي من بنود اتفاق استوكهولم، ثم تم تأجيل تنفيذ الاتفاق إلى أجل غير مسمى، قبل أن تطوي حروب الحوثيين على مأرب والجوف والبيضاء والضالع ومدن الساحل الغربي صفحة ذلك الاتفاق.

أما الخطيئة الثانية التي أسس لها استوكهولم فهي اختصار الأزمة في البلاد في جوانبها الإنسانية، بغض النظر عن الجذر السياسي للأزمة المتمثل في انقلاب الحوثيين الذي تسبب في الحرب وما نتج عنها. واللافت أن الاتفاق الذي أوقف الحرب بسبب ما سمي حينها «أسوأ كارثة إنسانية على مستوى العالم» هذا الاتفاق لم ينجح في رفع المعاناة الإنسانية، قدر ما نجح في تكريس سلطة الحوثيين على أهم موانئ البلاد الذي يدر على الميليشيات مليارات، ناهيك عن استمرار تدفق الأسلحة المهربة، وتفاقم الوضع الإنساني.

وفي الفترة التي تم الترويج فيها لـ«الكارثة الإنسانية الأسوأ في العالم» روجت الدوائر ذاتها بأن الحل العسكري وصل إلى طريق مسدود، والواقع أن هذا الحل لم يصل إلى نهاية الطريق ولم يفشل، وإنما أوقف بقوة الضغط الدولي، وهو قاب قوسين من انتزاع الحديدة من قبضة الحوثيين، لولا الضغوط الدولية التي أوقفت دخول «القوات المشتركة» ميناء الحديدة بعد أن أصبحت على بعد ثلاثة كيلومترات منه.

واليوم، ومع كل دعوات السلام، هناك سؤال صعب يواجه كل من يدعون للسلام في اليمن، وهو كيف يمكن إقناع إيران والحوثيين أو إلزامهم بالسلام، وما هي وسائل الضغط المتاحة؟

وسؤال آخر: إذا كان الحوثي يريد بالفعل السلام فلماذا يستغل كل هدنة في التحشيد والتسليح؟

لا أحد لديه أي تصور أو لا أحد يريد أن يخوض في موضوعات مثل تلك، وهذا ما يجعل دعوات السلام في هذا السياق مجرد كلام شعاراتي لا يهدف للتطبيق قدر ما هي أقرب لتسجيل مواقف لأغراض أخرى، ويجعل الحديث عن السلام دون رؤية واقعية لإحلاله مجرد كليشيهات تردد لملء فراغ البيانات، ويجعل السلام تغليباً لطرف ضد طرف، في ظل حصول الحوثي على الصواريخ البالستية من جهة وعدم تسليح الجيش اليمني من جهة أخرى.

لا يمكن صناعة سلام في ظل وجود يد واحدة ممدودة للسلام فيما اليد الأخرى تضغط على الزناد، ولا يمكن تحقيق السلام إلا إذا توازنت المصالح والقوى على الأرض، وهو ما يعني اعتماد بناء وتسليح الجيش ضمن استراتيجية إحلال السلام، لأن السلاح كما يصنع الحرب فإنه يصنع السلام كذلك.

قبل فترة تعاقدت أستراليا لشراء 8 غواصات نووية أمريكية قالت إنها «من أجل إرساء السلام في بحر الصين الجنوبي»!

وقبل أيام خصص «صندوق السلام الأوروبي» 500 مليون يورو لكييف لشراء أسلحة!

أما اليمن الذي يواجه انقلاباً حوثياً إيرانياً مسلحاً بالبالستي والطائرات المسيرة فيراد له أن يأتي للسلام بجيش منزوع السلاح، وهذا خلل كبير في الرؤى والمعادلات.

مقالات الكاتب