قصة صمود ماريابا
جاء في معاني اسم مأرب أنها من المأرَب وهو الغرض والحاجة، إذ كانت بلدة عامرة فيها كل ما يُحتاج إليه من مآرب، وقيل إنها كانت تعني «ماء ربَّ» أي ماء تجمع، في إشارة لتجمع الماء بعد بناء السبئيين لسدهم الشهير، وأطلق عليها الرومان أسماء مختلفة منها «ماريابا».
وجاء في القرآن الكريم قصة ملكة سبأ اليمنية القديمة في مأرب، حيث أرسل لها النبي سليمان رسالة، مفادها «ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين» فشاورت الملكة قومها، فردوا بحزم: «نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» في إشارة إلى مبلغ القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي بلغتها هذه المملكة.
ويحدثنا المؤرخ الروماني سترابون أنه في العام 24 قبل الميلاد أمر الامبراطور الروماني أوغسطوس واليه على مصر إيليوس غالوس بقيادة حملة كبيرة لضم مملكة سبأ اليمنية إلى أراضي الإمبراطورية، بعد أن سمع الامبراطور عن غنى هذه المملكة، فجهز الحاكم الروماني لمصر جيشاً نخبوياً من نحو عشرة آلاف مقاتل لغزو السبئيين والسيطرة على مدينتهم «ماريابا» وهي مأرب اليمنية التي تقع اليوم إلى الشرق من العاصمة صنعاء، على أطراف الرمال.
وعلى الرغم من محاولات سترابون تضخيم بطولات الرومان في هذه الغزوة، إلا أنه لم يستطع أن يهرب من قول الحقيقة المرة، وهي أن جحافل الروم منيت بهزيمة ساحقة، وأن عشرة آلاف مقاتل «نخبوي» هلك أكثرهم في هذه الغزوة، نتيجة للمقاومة الشديدة التي أبدتها «ماريابا/مأرب» ضد الغزاة الذين اندحروا عنها، وهلك كثير منهم بعد الهزيمة عطشاً في الصحراء.
وتمر القرون ويتهدم السد ويخرب «المسكن» الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وتدخل مأرب مراحل من النسيان مع تدفق الرمال على آثارها العظيمة، كتدفق القرون على تاريخها العريق. ورغم ذلك ظلت لهذه المدينة رمزيتها التاريخية والقومية الرافضة لمشاريع الهيمنة القديمة والحديثة.
وفي القرن الثالث الهجري وفد إلى اليمن طامح سياسي في ثياب رجل دين، هو يحيى بن الحسين الذي قدِم حَكَماً بين قبيلتين من قبائل البلاد، ومع الزمن تحول الحَكَم إلى حاكم بمساعدة جيش من الطبريين، ثم تحول الحاكم إلى إمام، ومع تمكن الإمام من السلطة أفتى بحرمة قيام أي إمام من غير ذريته، ومع مرور الزمن حاول الأئمة على مدار تاريخهم إخضاع مأرب لسلطاتهم، لكنهم كانوا غالباً ما يواجهون ثورة قبائلها ضد أنظمة الأئمة المختلفة التي حاولت فرض رؤية مذهبية واحدة على هذه المنطقة.
وحوالي سنة 1142 لجأ إلى مأرب علامة اليمن نشوان بن سعيد الحميري، هرباً من بطش الإمام الزيدي أحمد بن سليمان، ولقي الحميري عند أهلها النصرة التي أراد. كما كان لمأرب جولات من الحرب مع الإمام عبدالله بن حمزة الذي حاول إرغام أهلها على تغيير مذهبهم الديني، لكنهم رفضوا وقاوموا، فأرسل لهم الإمام الذي كان مبالغاً في عنصريته وتعصبه المذهبي أبياتاً جاء فيها:
وهل تمَّتْ لكم أبداً صلاةٌ
إذا ما أنتمُ لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وظلت مأرب تقارع جحافل هذا الإمام الجائر الذي بلغ به الكبر والغلو أن أرسل لأهلها رسالة يقول فيها «ألّا تعلو علي وأتوني مسلمين» وهي رسالة النبي سليمان لأهل مأرب من قبل، كما ورد في القرآن الكريم، حيث كفّر ابن حمزة أبناء مأرب وحاربهم ليعيدهم إلى الإسلام.
وبعد وفاة هذا الإمام تعب الأئمة من محاولات إخضاع هذه المنطقة، نظراً لقسوة طبيعتها ورجالها المتمرسين في الحرب، غير أن الإمام المتوكل إسماعيل قرر سنة 1648 للميلاد أن يغزو حضرموت لضم سلطنة الكثيريين إلى مملكته، فتجهز جيشه بقيادة ابن أخيه، وفي الطريق تصدت له مأرب وألحقت به هزيمة منكرة، إثر حرب عصابات وكمائن نفذها مقاتلو مأرب، تراجع على إثرها الجيش عن غزوته، قبل أن ينفذها لاحقاً بعد أن سلك طريقاً آخر متحاشياً الاقتراب من مدينة مأرب.
وفي آخر دولة للأئمة الزيديين في اليمن حاول الإمام يحيى حميد الدين إخضاع مأرب لكن قبائلها رفضت الخضوع لسيطرته وقام تحالف قبلي ضد توجهات الإمام الجديد، وظل الصراع محتدماً يشتد ويخفت إلى أن قاد الشيخ القبلي علي ناصر القردعي أحد وجهاء مأرب ثورة 1948 ضد الإمام الذي قتل على يد القردعي ورفاقه، ليقضي فيما بعد أحمد نجل الإمام على هذه الثورة. غير أن الأمر لم يستمر طويلاً حتى ثارت قبائل صرواح ضد الإمام الجديد سنة 1957، وظل الأمر على ما هو عليه من الصراع بين تلك المحافظة البدوية المقاتلة وأنظمة الأئمة المختلفة إلى أن انتهى نظام الإمامة بعد قيام الجمهورية سنة 1962.
واليوم يبدو أن التاريخ يعيد نفسه والزمن يدور والأحداث تتكرر، وإن بشكل وأدوات وأبطال وشعارات وأهداف مختلفة إلى حد ما. وفي بداية العام 2021 كانت وكالة مهر الإيرانية تتحدث عن «معركة مأرب الكبرى» التي ستغير المشهد اليمني والإقليمي بتقدم «محور المقاومة» في اليمن، وفي بداية العام رفعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الحوثيين من قوائم الإرهاب، اتباعاً لخطط التخلص من سياسات سلفه، وللضغط على السعودية، ولتشجيع إيران على التفاوض حول الملف النووي.
شجع كل ذلك الإيرانيين على البدء في «المعركة الكبرى» التي هيؤوا وكلاءهم الحوثيين لها بترسانة ضخمة من الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والأسلحة النوعية، كما أرسلوا لقيادتها أحد أبرز القيادات في الحرس الثوري حسن إيرلو، تحت غطاء دبلوماسي كسفير لهم لدى الحوثيين. ومع أن هجمات الحوثيين لم تنقطع عن مأرب منذ 2015، إلا أن الهجوم الأوسع كان ذلك الذي بدأ في شهر فبراير من العام الحالي، بعد الإعلان عن تعيين إيرلو سفيراً. ومع قدوم شهر رمضان الماضي بشرت وكالة مهر مرة أخرى «المجاهدين» بعنوانها المثير: «لنصومن غداً في مأرب، ولنفطرن بتمرها» ومع كل رمضان كان الحوثيون يطلقون حملتهم، أملاً في نصر مماثل للنصر الذي حققه النبي وأصحابه على قريش في رمضان من العام الهجري الثاني. وقبل ثلاثة أسابيع خرجت علينا قناة الميادين بتصريح يقول إن أياماً قليلة تفصل الحوثيين عن «تحرير» مدينة مأرب التي حشدت لها إيران قوة عسكرية وإعلامية كبيرة.
ومع تصرم العام 2021 ظلت مأرب صامدة رغم كثرة جراحها، وظل الحوثيون ومعهم خبراء من حزب الله اللبناني ومن الحرس الثوري الإيراني يتساقطون، حتى نقلت وكالة الأنباء الفرنسية في نوفمبر الماضي عن مصادر حوثية تأكيدهم مقتل حوالي 15 ألفا من عناصرهم خلال خمسة أشهر فقط من هذا العام. وقبل أيام خسرت إيران حسن إيرلو الذي كان يقود ويخطط للهجمات الصاروخية الحوثية على المدن اليمنية والسعودية، وعلى الرغم من إعلان النظام الإيراني أن إيرلو مات بكورونا إلا أن مؤشرات كثيرة تؤكد مقتله في ضربة جوية للتحالف، قبل أن يؤكد نجله علي أن والده قتل في اليمن، موضحاً أن مقتله يعد «مقدمة لخروج الإمام المهدي» حسبما أفاد موقع إيران انترناشيونال.
وبطبيعة الحال فإن السيطرة على مأرب تعد هدفاً استراتيجياً لإيران، ليس لثروتها النفطية والغازية وحسب، ولكن لموقعها على تقاطع طرق تربط الشمال والجنوب، بالطرق الدولية المؤدية إلى السعودية وعمان والخليج، ناهيك عن نموذجها المقاوم الذي يخشى الحوثيون من تعميمه، بعد أن باتت السيطرة على مأرب أقرب إلى الأحلام، وخاصة بعد مقتل حسن إيرلو الذي جاء إلى اليمن لقيادة المعركة، ورحل قبل أن يذوق «تمر مأرب» الذي تحول فيما يبدو إلى جمر حارق.