الشعب والخطوة رقم واحد

هي مجرد صورة في ألبوم المواجع الممتدة منذ سنوات.. الكثير منا قالها في نفسه، ومارس حيالها الأسف العميق كنوع من إسقاط الواجب وهرباً من تأنيب الضمير.

مأساة تلو مأساة وهوان تلو آخر، أرواح تُزهق في الجبهات وأخرى تزهق بلا حربٍ ولا معركة، "يتبخر الشهداء مثل دمٍ على الاسفلت لا مطرٌ يجيء ولا جياد"، حسب تعبير الشاعر أحمد ضيف الله العواضي. أو حسب تعبير البردوني: "فوجٌ يموت وننساه بأربعةٍ - فلم يعد أحدٌ يبكي على أحد"!

نستفرغ سخطنا أياماً في مواقع التواصل، ويظل بعدها القاتل طليقا يعربد في الشوارع. وفي أحسن الأحوال سيقولون إنها قضية ثأر، ويخرج محمد علي الحوثي رفقة ثورين آخرين وبضعة بنادق؛ ويكرر اسطوانته المعهودة عقب كل جريمة: وصلناكم يا جماعة الخير والقول قولكم والشور شوركم وما حكمتم إحنا موافقين، أنتم السكين واحنا اللحم!. فيردون عليه بالعفو، ثم يردد الجميع الصرخة!!

***

"العجز أولُه التواني"، والذل أوله الدعممة، وهذا التعاطي السلبي مع الكوارث يجعلها تتكرر، ويوماً عن يوم تتبلد المشاعر، ويصبح الهوان مألوفاً وتفقد جلودنا القدرة على الاحساس، ويغور ماء الوجوه، ويهون شعب على نفسه، فلا حمية ولا نخوة ولا عزة.

ولكن ما ذنب الشعب، ما الذي بوسعه أن يفعله.. هو ذا يتألم ويتحرق وينزف وما بيده أي حيلة: عصابة الكهنوت ماسكة بخناقه باليد اليمنى والكلاشنكوف باليد اليسرى، والشرعية غائبة مغتربة مشغولة بحصص الأحزاب، والأحزاب مأزومة بثارات بلهاء ومصالح ضيقة، والنخب الاعتيادية إما خائفة على مقتنياتها لدى الحوثي، أو مرتهنة لأجندات خارجية متصارعة مقابل حفنة من المال المدنس، والإعلام بلا خبرة يستدر عطف المنظمات، والمنظمات بلا ذمة تستدر ميزانية خطة الاستجابة.. وهلم جرا.

مشهد بائس تلخصه صورة امرأة في حجة مخضبة بدم زوجها المقتول برصاص نافذ حوثي، أو المأخوذ له بالثأر.. سيان.. لقد شاهدنا بالصوت والصورة فظائع أكبر، مسلحين حوثة يداهمون بيوتا وينتزعون الأب ويقتلونه أمام زوجته وأطفاله. 

المشهد العام بائس بالفعل، ولكن الشعب فيه هو الضعيف القوي الذي لو اهتدى لممكنات حركته، ومتاحات فعله، لقام بقلب الطاولة وانتصر لجمهوريته وكرامته بسهولة، وبأقل قدر من التضحيات وأقصر فترة من الزمن.

***

في ظل مشهد كهذا، ليس أمام الشعب إلا أن ينظم نفسه ويرتب أوراقه.. والمقصود هنا بالشعب، قواه الحية من نقابات ووجاهات ورجال أعمال ومتقاعدين وأكاديميين وطلاباً ومعلمين ومبتعثين، وغير ذلك من النخب والشرائح التي يقتلها الحوثي كل يوم وتنساها الشرعية كل حين.  

بإمكان الشعب أن يصنع الأعاجيب حينما يدرك أنه الرقم الصحيح والطرف الأقوى في هذه المعادلة، وأنه هو المستهدف كياناً وهويةً ووجوداً، وأنه المؤزر باللطف والتوفيق إذا ما بدأ، وأنه صاحب إمكانيات مهولة إذا ما نهضت من داخله نفوس صادقة وأوعية نزيهة، وما أكثرها.

وحين يعتمد الشعب على نفسه، سيعمل على تصعيد وحماية نخبه المعبرة عنه، وتخليق فرسانه الجدد، وبلورة حركة رفض مجتمعي ذكية ومتنامية ومتزامنة ومتعاضدة. لقد حان الوقت يا أبناء اليمن.

***

قبل سنوات قرأت كتاباً عن نهضة الشعوب، استلفتني فيه السطر الأول من الكتاب، والذي يحوي تعريفاً للنهضة بأنها "شعور يسري لدى شعب ما، برداءة الواقع المعاش وضرورة تغييره". هذا الشعور سيتبعه بالضرورة ابتكار آليات التغيير، والتي سوف تأخذ مجراها بشكل تلقائي فتحدث النهضة. 

إذن: الشعور المتعاظم براءة الحاضر وضرورة تغييره هو الخطوة رقم واحد. يليه الثقة التامة أن لا أحد سوف يأتي ليحفظ لنا كرامتنا ويعيد لنا بلادنا إلا نحن؛ ثمة مجتمعٌ دوليٌ لئيم، أغلبه يعرف تمام المعرفة من هو المجرم الغريم ويعرف بدقة حجم جرائمه، ولكنه يظل يتفرج مستمتعاً بفيلم الرعب الحادث في اليمن منذ سنوات. 

وبالمثل، لدينا مجتمع مجاور مليء بالشحناء وفجور الخصومة على حسابنا نحن، دماؤنا عندهم ليست سوى وسيلة للتوظيف تستخدم للمزايدة والمناكفة أحياناً، ويطمرها التجاهل والتعامي أحياناً أخرى. ومع كل ذلك علينا ألا نلوم سوى أنفسنا، وألا نعتمد سوى على الله في السماء وشعبنا في الأرض. والله ولي التوفيق.

مقالات الكاتب