الأبناء لا يكونون آباء عندنا!

هذه هي المشكلة، الأبناء لا يكبرون في هذه المنطقة من العالم. لا تكون لديهم الثقة لأن يكونوا آباء، نحن ننتمي لجد ثقافي وسياسي وفكري واحد، كما ننتمي لجد عرقي واحد، تعدد الآباء الفكريين جريمة وعقوق للأب الواحد المزعوم، تماماً كما أن تعدد الآباء العرقيين طعن في الشرف.
لنا جد قبلي واحد، وجد فكري واحد، ومن آمن بتعدد أجداده الفكريين لا ولاء له، كما أن من آمن بتعدد آبائه القبليين لا شرف له.
هذه هي المشكلة. علينا أن نظل عالة على ميراث هذا الجد، الخروج على مقولاته مروق عن الدين، ومحاولات استلهامه بدلاً من تقليده تعد خروجاً على تعاليمه. يجب العودة إلى كتبه ومؤلفاته، والرجوع إلى أفعاله وأقواله، والجمود عند اجتهاداته واستنتاجاته، كي لا نضل الطريق، ونقع في التيه.
الفقهاء لا يريدون الخروج على مقولات أئمة المذاهب، والفلاسفة لا يجرؤون على نقض طروحات ابن رشد، لم تنجب النساء غير ابن خلدون. وإذا اقتربنا من حاضرنا قليلاً، سنقول إن الساسة لا يزالون يتحدثون لغة آبائهم السياسيين: الإخوان المسلمون لا يمكنهم الخروج من عباءة حسن البنا الذي لا يجوز الخروج على مجموعة رسائله، والناصريون لا يزالون أبناء طيبين لجمال عبدالناصر، يخونه من فكر على غير طريقته، ولذا نجد إسقاطات مرحلة الستينيات وصراعاتها على أبناء البنا وعبد الناصر اليوم في اليمن ومصر وغيرهما. نحن على العكس مما ذكر سيغموند فرويد عن «عقدة أوديب»، وعلى العكس مما ذكر فريدريك نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»، ففرويد مكن «أوديب» من قتل أبيه، ونيتشه مكن «السوبرمان» من قتل إلهه. فأصبح أوديب أباً، وأصبح «السوبر مان» إلهاً.
وإذا كان فرويد قد ذهب بعيداً في التأسيس للثورة حدَّ قتل الأب (بمعناه الرمزي)، فإننا ذهبنا بعيداً في تقديس هذا الأب، وتحويله إلى «إله طوطمي» مقدس. ولئن كان نيتشه قد ذهب بعيداً في الثورة على «الإله» وقتله على يد الإنسان، ليحل محله، في مسعى للخروج على الموروث المسيحي، ولفتح الباب واسعاً أمام انطلاقة الإنسان الفكرية والروحية، فإننا ذهبنا بعيداً في تأليه الإنسان، بالمعنى الذي قدسنا فيه آباءنا المؤسسين إلى درجة تحريم الخروج على تعاليمهم، وإن كنا نعتقد أنهم بشر مثلنا.
إننا دائماً ما نقع في غرام «أسطرة التاريخ»، وتقديس الماضي، و»تربيب» الأب، لأننا نشعر بالخوف من الجديد، والخشية من الخروج على المألوف، ويطاردنا القلق من «لعنة الأجداد»، حال حِدْنا عن طريقهم، أو ما نتوهم نحن أنه طريقهم. بهذه الطريقة نظل أسرى للماضي، وحبيسي تصوراتنا لهذا الماضي، ولهذا نعيد أخطاءه، ونبعث حروبه، ونجتر آلامه، ونلعق جراحاته، وندور في الدائرة المغلقة التي نعيد فيها إنتاج شخصيات الماضي، وتقمص أدوارها، في سياق غير السياق، ومكان غير المكان. ومع أنه يُكتب اليوم الكثير عن ضرورة عدم تقديس الآباء الفكريين، ووجوب التحرر من سطوة التقليد، إلا أن هناك خوفاً عميقاً من مخالفة ما يقوله هؤلاء.
وبما أننا رفعنا الآباء الغابرين إلى درجة التقديس، فإننا بشكل آلي رفعنا اجتهاداتهم إلى درجة الثوابت، وبدلاً من وضعها في سياقاتها الصحيحة كمنتج بشري، تعاملنا معها كجزء من الوحي السماوي الذي لا يجوز الخروج عليه، مع أن منتجهم كان مختلطاً بالكثير من إفرازات الحياة التي عاشوها وأثرت على منتجهم الفقهي والفكري والأدبي والفلسفي وغيره. وفي سياق الاستكانة فإن حالنا تشبه حال أولئك الأطفال الذين لا يستطيعون تحقيق الانفصال الفكري والعاطفي، والاستقلال المادي والمعنوي عن آبائهم، ظناً منهم أن الاعتماد على النفس يعني الإساءة للآباء، أو أن الخروج على مقولة الأب، يعني الخروج على مقولة الرب، بالمعنى الذي نرى فيه تقاليد الآباء ضرباً من الدين عمدنا إلى مزجه مع معتقدات الإسلام وشرائعه، ثم قدمناه لنا وللآخر على أساس أنه جاء من السماء، من دون أن نفكر في أن لدى الآباء قدرة محدودة على العطاء، مشروطة بظروف زمنية ومكانية معينة، وأن خروج الأبناء من بيت الأب يعني التأسيس لحياة جديدة، وأن عملية انفصال الأبناء عن الآباء تعني استمرارية الحياة، وتواصل الأجيال وتراكمية المعارف. وقد انعكست هذه النظرة على لاوعينا، وظهرت في كثير من الأمثال والمقولات لدينا، من مثل: ماذا ترك المتقدم للمتأخر، أو السابق للاحق؟ وغيرها من المقولات التي تعكس ثقافة التبعية الفكرية والوجدانية، والاستلاب الروحي والثقافي، والرضوخ للأبوية «الطوطمية» الطاغية، التي سحقت الشخصية المعاصرة لصالح تضخم ماضوي مبالغ في تقديسه.
وعلى الرغم من أن القرآن يشنع بطريقة لاذعة على تلك الطريقة في التعامل مع الماضي، أو التعاطي مع الآباء القدماء، كما في الآيتين: «إنا وجدنا آباءنا على أمة»، و»إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»، إلا أن الممارسة العملية لنا اليوم تشير إلى نقيض ما تدعو إليه النصوص المقدسة من ضرورة الانعتاق من الموروث المغلوط، والانطلاق نحو ارتياد آفاق جديدة على مستوى الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد وغيرها. لا يراد لنا اليوم بالطبع الثورة على الموروث على طريقة نيتشه الذي عاش مهجوساً بأزمة الخروج على المثالية الهيغلية، والتمرد على القيم المسيحية السائدة، ولكن لا يجوز لنا أن نظل محتفظين بمقولات جداتنا، وحكايات ما قبل النوم، و»ليس في الإمكان أبدع مما كان».
كل ما هو مطلوب لهذا الطفل العربي الذي تجاوز عمره الفعلي مرحلة الفطام أن يكف عن الاعتماد على حليب أمه، وأن يشق رحلته في الحياة معتمداً على ذاته، مستلهماً لا مقلداً أباه الذي رحل منذ زمن بعيد.

 

*القدس العربي

مقالات الكاتب