الإسلام السياسي كقطار تَخلّفٍ عابِر للحدود
في القرن الماضي، رفعت إحدى الجماعات الدينيّة، واسعة الانتشار، شعار "الإسلام هو الحل". كانت هذه المرة الأولى في التاريخ الإسلامي كله التي يُروّج لشعارٍ كهذا، وإن كان على المستوى العام يُعتقد به، وبدرجةٍ تتفاوت من شخصٍ لآخر، بفعل ما تفرضه الرؤية الدينية من تصوراتٍ حول العالم والوجود.
ولأن الإسلام ليس واحِداً في عالمنا المُعاصر، وتتصارع بشأن تأويله وتفسيره وتقديمه طوائف ومذاهب وتيارات كثيرة ومختلفة، وكل منها يدّعي الامتلاك الحصري لحقيقته/حقائقه المُطلقة (المفُترضة)، فقد وَلد هذا الشعار الأثير لدى كل الجماعات الإسلاميّة الاستجابة ذاتها حتى تلك الجماعات التي طالما فاخرت باستمرار، وما زالت، تُفاخر بأن لها موقفاً شديد التباين عن تلك الجماعة التي أطلقت الشعار في بادئ الأمر. فالجميع أستنفر كل قواه في ماراثون التسابق المحموم للظفر بالمقاعد الأولى في القطار الذي ينبغي أن يقود دفة التاريخ بوقود المعنى الديني الأكثر نقاءً وصفاءً وأصالةً، هذا المعنى الذي بإمكانه أن يُقدّم، وبكل أريحيّة ووثوقيّة، وبافتراضٍ مُسبقٍ، الإجابات الشافية لكافة التساؤلات والقلق الوجوديّ للإنسان المعاصر، ولكل عصرٍ ومصرٍ، وسيسعفه تماماً في مواجهة كل التحديات والعواصف التي تُلقي بكلكلها عليه طبيعة تموجات الواقع وتقلبات الزمان.
ولم تكن أكبر السلبيات المباشرة المترتبة عن تضييق أفق الرؤية الدينيّة إلى أبعد الحدود تقتصر في إعادة تقسيم وأسيجة العالم الإسلامي إلى كونتوناتٍ مذهبيّةٍ وطائفيّةٍ صغيرةٍ، فالسباق هنا تحول وبفعل ضغط تأثيراتٍ ومقتضياتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ ومصلحيّةٍ إلى استراتيجيّة واسعة للتصارع والتنازع إسلاميّة-إسلاميّة، لم تستثني أحداً، وكما اقتصرت معركتها سابقاً في جبهة الإيديولوجيات المناهضة كالعلمانيّة والقوميّة، ولكنها انفجرت في السنوات الأخيرة في كل الجبهات حتى بلغت ذروتها، ببعض الحالات، بين تياراتٍ وجماعاتٍ إسلاميّةٍ، فالجاهليّة (الثانيّة) والضَلال غدتا صفتين أثيرتين تصوب إلى صدور أهون المختلفين مع جماعةٍ إسلاميّةٍ ما حول أحدى رؤاها.
هذا التضييق بلغ صورةً حرجةً حتى عن تلك الحالات التي عُرف بها، وبشكلٍ متواترٍ، في التاريخ الإسلامي المُمتد. فالمعنى الذي افترضه الشعار ـ ابتداءً ـ بوجود إسلامٍ نقيٍّ صافيٍّ واحدٍ، يصلح بكل ما فيه، وبكل ما حمله ويحمله، لكل الأزمان والأمصار، وهو يقف بالضرورة في مكانٍ قصيٍّ عن مجمل الموروث الإسلامي المتعدد والمتنوع بفعل البيئات المختلفة والمتنوعة التي اختلط فيها فتولد عن ذلك نوع من الموائمة بين منظوراته وتصوراته الخاصة وبين المتخيلات الجماعيّة العتيقة الموجودة في كل بيئةٍ، والسابقة لمجيء الإسلام ( هذا التنوع الذي اضطر مثلاٌ ـ في السابق ـ فقيهاً كبيراً كالشافعي إلى أن يجري تعديلات واسعة على مذهبه بعد انتقاله من مكانٍ إلى آخر).
وليس خافياً على الجميع أن هذا الشعار كان شعاراً سياسيّاً بامتياز، شعار للسلطة ومن أجل السلطة، وقد توثقت شرعيّته، وسترت تشوهاته ومغالطاته، المواجهات التي تفاوتت في درجات نعومتها وعنفها، وفي مستوياتها وأبعادها وأدواتها، بين ما سماها أركون "الأديان العلمانيّة"، أي الإيديولوجيات السياسيّة ـبخلفياتها القوميّة والماركسيّة والليبرالية الرأسماليّة ـ التي حاول "الطليعيّون" العرب تطبيق نتفٍ منها هُنا وهناك، وبلا استراتيجية واضحة المعالم إلا في حالاتٍ نادرةٍ، وبين التيارات الدينيّة التي اُمْتُشِقَت من قعر أغمادها التاريخيّة والاجتماعيّة للوقوف صفاً واحداً في وجه هذه النتف المتناثرة والمبعثرة.
ولا جدال في أن المواجهات آلت بنتائجها، في نهاية المطاف، لصالح الجماعات الإسلاميّة، خصوصاً في العقود الأخير. فما توهمه الطليعيّون العرب، والنُخب التي خلفتهم في المواقع المختلفة، في تجاوز المرحلة الدينية كرؤيا للعالم وكإيديولوجيا للوجود، كما يرى أركون، لم يكن صحيحاً وكما هو موجود في الأماكن الأخرى المختلفة خارج سياق العالم الإسلامي، لذلك لم تستطع أيٌّ من هذه الإيديولوجيات أن تَحِل محل الرؤيّة الدينيّة المهيمنة، والأكثر تضامناً وقرباً وأكثر صلةً وتطويعاً لسلطات القمع السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ولاستراتيجياتها ورهاناتها في الهيمنة.
لكن الكارثة الحقيقيّة التي تمخضت عن هذه المواجهة ونتائجها المختلفة على كافة الأصعدة، والتي لم ننتبه لها بشكلٍ كافٍ وواعٍ إلى حد الآن، هي في بقاء شعار (الإسلام هو الحل) كأحد المسلمات التي لا يُسمح لأي نقاشٍ ولو بسيط جداً أن يدور حوله، أو يحاول أستنطاقه وفهمه في ضوء مقتضيات وضرورات كثيرة ودون أن يضع في حسبانه حالة التواطئ المتوقعة من التبعات والعواقب التي قد تلحق بالمرء نتيجةً التعبئة والشحن ضد أي قراءة نقديّة، ليصل الأمر إلى تصوير أي محاولة لنقد "شعار" يتبع جماعة من الجماعات الإسلاميّة الكثيرة كإساءة كليّة وبالغة للدين، وشِركاً أكبر، وجاهليّةً ثانيةً...إلخ!
والواقع أن هذا الشعار هو من نوعيّة تلك الشعارات الهائلة في تبسيطيّتها وتسطيحيّتها، وهذا أحد الجوانب الهامة الذي أكسبته شعبيته الطاغيّة، لكنه شعارٌ مُصممٌ لإحداث حالة من التزييف الكاملة والمتكاملة، زيفاً يحاول أن يسطو بعنوةٍ وباستهتارٍ على المكان الذي يفترض لحقائق العصر ورؤاه وتصوراته ومنظوراته الحضاريّة المُعاصرة أن تشغره. والمسألة، كما تبدو لي هنا تتعدى في كونها مجرد شعار، بل في كون هذه الشعار حَوَّل بالضرورة "صناعة الزيف" إلى مشروعٍ استراتيجي متكامل ودؤوب، بل هو، وبدون أي مبالغة، أهم المشاريع منهجيّة وإنفاقاً للجهد والمال تم الاشتغال عليها في الغالبية الساحقة من دول العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، وعلى كافة الأصعدة والمستويات.
ويجدر بنا القول، أن هذا الشعار قد أساء إلى الإسلام إساءة بالغة، وفي نفس الوقت، أساء إلى الواقع والعصر الذي نعيش فيه. ففي الإساءة الأولى حمّل الإسلام؛ كدين كان له وظيفة روحيّة إيجابيّة وهائلة في تاريخ هذا الجزء من العالم، ما لم يُحتمل، إذ حاول أن يُوهِم النّاس، وبإستماتةٍ بالغةٍ، أن يأتيهم بما ليس هو بقادرٍ على تقديمه، أو بالأصح يقع خارج وظيفته كليّاً، فأوقعهم في حالةٍ مضنيةٍ وتعيسةٍ من الفراغ والتوهان والقلق والتشكك والعبث، والصراع مع المجهول في سبيل الظفر بذاك الذي لن يأتي قط. وفي الثانية، أساء إلى العصر عندما اعتقد وفقاً لافتراضاته المُسبقة أن بإمكان نتفٍ مهلهلةٍ ومتعارضةٍ، تُنتقى على عجلٍ من تواريخٍ وحُقبٍ وبيئاتٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ أن تُقدّم حلولاً ناجعةً ومتماسكةً لكل قضايا ومشاكل وتحديات ومتطلبات الواقع، في بيئاتٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ للعصر الذي نعيش فيه. بينما كل ما قام به، في واقع الأمر، وفي ظل إصراره العنيد على القيام بزياراتٍ دؤوبةٍ، لا تنقطع، إلى أعماق التاريخ بحثاً عن المعنى الديني الأصيل، إحضار كل ما من شأنه أن يعمل على توسيع وتعميق بؤر الصراع والتشظي والتصارع في طول وعرض العالم الإسلامي أجمع!
كاتب يمني مقيم في ألمانيا