سيناريو عراقي في إيران
طريق طويل يمتد لعقود طويلة قبل أن يصل للنهاية، في مرحلته الأولى تُثار ملفات تتعلق بالتصنيع الحربي للدولة المستهدفة، ثم التحرك عبر المؤسسات الدولية، فإدانات وفرض عقوبات، لإضعاف الاقتصاد، وضرب العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار، مع تردي الأوضاع المعيشية، وتهيئة فرص تلاشي الطبقة الوسطى، تمهيداً لتفكيك الدولة.
ثم تأتي المرحلة التالية بعد سنوات طويلة من الإفقار وضرب الاقتصاد، وهي مرحلة القوة الخشنة، وضرب ما تبقى من مؤسسات الدولة، بشن حملة عسكرية، لإسقاط النظام أو إضعافه، بعد استيفاء بنك الأهداف من بنية الدولة المستهدفة.
في عام 1990 ارتكب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خطأ العمر الذي كلفه وكلف المنطقة أهوالاً لم تكن في الحسبان، وصلت في الأخير حد إعدامه مع أركان قيادة الحزب والدولة.
ومع الفارق إلا أننا يمكن أن نلحظ التشابه بين ظروف شن الحرب على كل من العراق وإيران، فملف حيازة أسلحة الدمار الشامل في العراق يقابله ملف البرنامج النووي في إيران، وقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بالعراق تقترب من حيث الهدف والجوهر من قرارات مجلس الأمن الخاصة بإيران، وحصار العراق يقابله العقوبات الدولية على إيران، وهدف إسقاط النظام في بغداد يقابل مطلب تعديل سلوك النظام في طهران (لم يعد واضحاً ما إذا كان هذا المطلب لا يزال قائما الآن)، والذهاب للحرب على العراق، خارج الشرعية الدولية يماثل الذهاب للحرب على إيران، خارج تلك الشرعية.
هناك وجه شبه آخر مهم، وهو تجفيف منابع الدعم أو حتى التعاطف مع المنظومة الحاكمة، وذلك بعزل النظام الحاكم عن شعبه وعن محيطه، كي يعدم أي نوع من أنواع التأييد أو التضامن، مع حملة عسكرية شرسة، تهدف لتدمير كل مقومات الدولة، تحت يافطة التخلص من أسلحة الدمار الشامل العراقية، أو تدمير البرنامج النووي الإيراني، كما تهدف لترهيب الدول التي يمكن أن يُتوهم دعمها، كي يتم ضمان حيادها على الأقل.
تشابه عجيب مع فروق جوهرية تتعلق بطبيعة النظامين وظروف البلدين، ومعطيات الزمان والمكان، فيما يخص الحرب على العراق في الماضي، وعلى إيران اليوم.
وكما وقف العراق بلا سند حينها في وجه تحالف دولي من عشرات الدول عام 1990، ثم وقف وحيداً في وجه التحالف الأنجلو-أميركي في 2003 تقف إيران اليوم وحيدة، ومجردة من أي تعاطف شعبي أو دعم عسكري فعال من أي دولة صديقة أو حليفة.
هل كان النظام الإيراني ليكون في وضع كهذا لولا سلوكه الذي بطبيعة الحال اتخذ ذريعة لتدمير مقدرات واحد من أغنى بلدان العالم وأعرقها تاريخا؟!
خلال العقود الماضية أعطي الضوء الأخضر للنظام في طهران للتدخل في شؤون دول عربية عدة، أنشأ مليشيات، شكل دولة داخل الدولة، وتحدث قادته عن إيران التي تمتد حدودها من باب المندب إلى شواطئ المتوسط، وعن السيطرة على أربع عواصم عربية، وأثناء معارك الحوثيين مع قوات الحكومة اليمنية للسيطرة على مدينة مأرب عام 2021 بشرت وكالة مهر الإيرانية للأنباء بأن الصوم سيكون في مأرب، والإفطار سيكون على تمرها، في لهجة واثقة حد الغرور.
كان اللاعب الدولي الكبير يرخي العنان لنظام "الولي الفقيه"، ليخرب أينما شاء من اليمن إلى العراق فلبنان وسوريا، وكان قاسم سليماني يدخل بلداناً معينة، ويطلب الاجتماع مع قادة مليشياته في بلدان عربية، دون تنسيق مع أجهزة الدولة الرسمية، وكانت أنهار الدم تسيل على يد مليشيات إيران من مأرب في اليمن إلى الموصل في العراق فحلب وبيروت في سوريا ولبنان، دون أي اعتبار لسيادة الدول، أو لمبادئ القانون الدولي، وبديهيات القواعد الناظمة للعلاقات الدولية.
كان السفير الإيراني في العواصم العربية التي تتحكم بها مليشيات إيران، كان هو صاحب الكلمة الأخيرة في أكثر ملفات الأمن القومي حساسية في تلك البلدان، وكان مطار بيروت الدولي – كمثال على ذلك – يخضع لرقابة مليشيات حزب الله، ولم يكن للدولة اللبنانية سلطة فعلية على المطار، لأن هذا الملف قد أوكل إلى حزب إيران في لبنان.
كانت إيران تقوم بكل تلك الأعمال تحت مسميات مختلفة من مثل: "نصرة المستضعفين"، ومقاومة "قوى الاستكبار العالمي"، و"تصدير الثورة الإسلامية"، ضمن محور تم التوافق على تسميته "محور المقاومة" الذي كان يقوم بكل الجرائم من قتل وتشريد وتجويع وتطهير طائفي في بلدان عربية معينة، وهو في مأمن من العقوبة، لسبب بسيط، وهو أن هذا المحور كان - شعر أو لم يشعر - يؤدي دوراً مرسوماً في تفتيت دول المنطقة، دون أن يدري أنه في الوقت الذي كان فيه يعمم أذاه على الجوار العربي كان يفتح قبره ويمهد الطريق لاستهدافه، دون أن يجد حتى التعاطف الشعبي، عندما يحين الوقت، وهو ما كان، عندما بدأت إسرائيل ضرباتها الجوية المكثفة التي أودت بحياة قيادات عسكرية عليا في الجيش والحرس الثوري، عدا عن علماء نوويين تمكنت إسرائيل من تصفية معظمهم، خلال اليوم الأول من الهجوم على إيران.
كان النظم في طهران يرى مصائر أنظمة كثيرة في المنطقة، أسقطت قبله بالاستراتيجية ذاتها، وكان هذا النظام يمضي على غير هدى، على خطا الهالكين، وكانت سكرة القوة تعمي بصره عن رؤية القبر الكبير المفتوح في نهاية الطريق، وهو القبر الذي ذهب إليه هالكون كثر، ظل هذا النظام يحذر من مصيرهم، دون أن يحْذر هو نفسه من سوء هذا المصير.
يقول كارل ماركس إن التاريخ يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة، وفى المرة الثانية كملهاة. والواقع أن الأغبياء وحدهم يكررون التاريخ، لأنهم لا يحفظون دروسه.