خرافة الولاية.. كيف يُعاد إنتاج الكهنوت السلالي في يوم الغدير؟

في كل عام، وتحديدا في الثامن عشر من شهر ذي الحجة، تحتفل جماعة الحوثي بيوم يسمونه "عيد الغدير"، يوم لا يرتبط في وجدانهم بحب علي بن أبي طالب، بل بتحويل الرجل إلى مدخل لتجديد بيعة الزعيم، وتثبيت فكرة "الحق الإلهي في الحكم"، تلك الفكرة التي شكّلت حجر الأساس في مشروع الإمامة الذي جاء يحيى الرسي طبطبا ليؤسسه قبل أكثر من ألف عام، ويُعاد اليوم إنتاجه على يد السيء عبدالملك الحوثي.

يبدو للوهلة الأولى أن الأمر مجرد مناسبة دينية، لكنه في الحقيقة مناسبة سياسية بامتياز، تُستخدم لتأكيد السيطرة، وتجديد الطاعة، وربط الدين بالدم والسلالة، لا بالشورى والعدالة. 

يوم الغدير في خطاب الحوثيين ليس تذكيرا بمحبة آل البيت المزعومة، بل إثباتٌ لحقّ حصري في الحكم، وقناعة راسخة بأن الله قد خوّل فئة من الناس، لا لشيء إلا لنسبهم، بالتحكم في مصائر الأمة.

عبدالملك الحوثي لا يُخفي هذا التصور، بل يُعلنه مرارا. يقول بوضوح: "الولاية امتداد للقيادة الإلهية، وهي لا تكون إلا في آل البيت، لأنهم المصطفون، والذين اختارهم الله لهداية الأمة بعد الرسول". هذا الكلام الذي يبدو دينيًا، ومعتمدا على خرافة آل البيت، ما هو إلا صياغة جديدة لعقيدة سياسية، تضع الناس طبقات، وتجعل من السلالة صنفا فوق البشر، لا يُسائل، ولا يُنافس، ولا يحق لأحد سواه أن يحكم أو يقود.

لكنّنا حين نعود إلى النصوص الدينية، لا نجد لهذه الفكرة أثرا في كتاب الله. فلا توجد آية واحدة تنص على أن الخلافة من بعد النبي هي حق لعلي، ولا حديث صريح يضع الإمامة ركنا من أركان الإسلام. بل إن القرآن الكريم يقولها واضحة: "وأمرهم شورى بينهم"، ويقول: "ما فرطنا في الكتاب من شيء". فلو كانت الإمامة أصلا من أصول الدين كما يزعمون، لأثبتها الله في القرآن، كما أثبت الصلاة والصيام والحج وغيرها من العبادات.

لكن الحوثيين – كامتداد للزيدية الجارودية – بنوا كل سرديتهم على حديث واحد: "من كنت مولاه فعليّ مولاه". وهو حديث لا يصح، وحتى لو ثبت فانه لا يتحدث عن الخلافة، بل عن المحبة والولاء الروحي، بدليل أن الصحابة أجمعوا بعد وفاة النبي على الشورى، وبايعوا أبا بكر، ولم يُنكر عليهم عليّ ذلك، بل شاركهم البيعة.

وهنا، يظهر التناقض الأكبر في السردية الحوثية: إن كانت الإمامة أصلا دينيا لا يقوم الدين إلا به، وإن كان النبي قد نصّ على علي كما يزعمون، فكيف قبل علي أن يُقصى؟ وكيف سكت ثلاثين عاما عن هذا "الحق الإلهي"؟ أليس هذا تناقضا؟ أليس هذا ما يُسقط فكرة العصمة التي يروجون لها، حين يُقدّمون عليا كإمام معصوم، وفي الوقت ذاته يصورونه خاضعا لمن غصبوه حقه؟

بل إن هذه السردية تُسيء لعليّ أكثر مما تنصره، تجعل منه ساكتا على الضيم، مشاركا في دولة ظالمة، بل ناصحا لها، فهل هذا هو الإمام المعصوم؟ أم أن السردية صُنعت لتخدم فكرة، لا لتحترم سيرة رجل لا تجد كثيرا في تاريخه.

ولأن "خرافة الولاية" لا تقف عند عليّ، بل تمتد لتُصبح شرطا للإيمان، فقد رأينا في كتب أئمة الزيدية، وعلى رأسهم يحيى الرسي طباطبا، كيف يتحول منكر الولاية إلى كافر. 

يقول الرسي في كتاب "الأحكام في الحلال والحرام": "من أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام رسول الله فقد ردّ كتاب الله، وكان عند المسلمين كافرا". ويقول في موضع آخر: "الذي لا يعرف الإمام فهو ضال، ولا تُقبل له صلاة ولا عبادة".

ويقول أيضا في مقدمة كتابه (الأحكام): "ولا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد بإمامة علي بأيقن الإيقان"

وهنا، لم تعد المسألة تأويلا دينيا، بل تحولت إلى سلاح تكفير، فكل من لا يُؤمن بخرافة الولاية، يُرمى بالكفر، ويستباح دمه، وقد جاء عبدالملك الحوثي على هذا النهج، إذ قال في أحد خطاباته: "الذين يرفضون الولاية، هم نواصب، ولا حرمة لدمائهم"، وسبقه الى ذلك مؤسس الجماعة الهالك حسين الحوثي، وهكذا، يصبح الخلاف السياسي مبررا للقتل، وتُحوَّل العقيدة إلى وسيلة للإقصاء والاستئصال.

لكن من هو الإمام في هذه العقيدة؟ ومن يحق له أن يحكم؟ الجواب في التراث الهادوي واضح: لا يجوز أن يُؤمّ الناس، أو يقودهم، أو يحكمهم، إلا من كان من "البطنين"، أي من سلالة الحسن والحسين. حتى لو وُجد من هو أعلم وأورع وأعدل من غير السلالة، فلا حق له في الإمامة. إنها ليست مسألة كفاءة، بل نسب.

وقد قالها أحد علماء الزيدية في كتاب "البساط في علم الكلام": "لا تجوز إمامة غير الفاطمي، وإن توفر فيه العلم والورع، لأن الله حصر الإمامة في البطنين". هذا هو جوهر المشروع: الامتياز الوراثي لا التكليف الشرعي. النسب لا الكفاءة، السلالة لا الشورى.

ويوم الغدير، الذي يُستخدم لتجديد هذه الفكرة، يتحوّل في مناطق الحوثيين إلى موسم جباية وقمع، تُفرض الاتاوات على التجار، يُجبر الموظفون على الحضور، تُذاع الأناشيد الطائفية، وتُكتب اللافتات التي تربط الطاعة لله بالطاعة للزعيم، ومن يرفض المشاركة، يُتهم بالردة أو النصب، ويُعاقب وظيفيا أو أمنيا.

وفي هذا اليوم، لا يُكتفى بإحياء ذكرى مفترضة، بل تُرسخ الفكرة الأخطر: أن الحكم حكر على السلالة، وأن كل من يعارض هذا الاحتكار… هو خارج من الدين، ولا تختلف هذه العقيدة عن المذهب الاثني عشري، الذي يجعل الإمامة أصلا من أصول الدين، ويكفّر الصحابة، ويُقدّس الأئمة، ويجعل لهم عصمة فوق البشر، والفارق الوحيد أن الاثني عشرية حددوا الأئمة بعدد، بينما الإمامة الهادوية تفتح الباب لكل مدع بانتسابه لاحد البطنين، ورأي انه أحق فيخرج شاهرا سيفه ضد اليمنيين، فيقتل ويصلب وينهب مستندا الى عقيدة "كفر التأويل".

ولهذا نقول: مشروع الحوثي ليس هادويا جاروديا فقط بل اثنا عشري في الجوهر، زيدي في الاسم، إيراني في التوجه، عنصري في البنية.

إن يوم الغدير، الذي يُقدَّم بوصفه يوما دينيا، ما هو إلا مناسبة سياسية، يجري فيها تحويل الولاء الديني إلى ولاء سياسي، وتُفرض على الناس طاعة الزعيم باعتبارها طاعة لله، ويُعاد إنتاج الكهنوت تحت لافتة "الولاية".

هذه ليست طقوس محبة… إنها طقوس خضوع، وليست شعائر إيمان… بل أدوات إذلال.

ومن هنا، فإن معركتنا مع مشروع الولاية، ليست معركة تأويل ديني، بل معركة وعي، معركة دولة ضد سلالة، معركة مساواة، ضد امتياز، معركة إنسان، ضد من يرى أنه فوق الإنسان.

ومواجهة "خرافة الولاية"، تبدأ من إسقاط قُدسيتها، وفضح جذورها، وتفكيك خطابها، وكشف غاياتها، فليست من الدين في شيء… بل من "سلالة الوهم".

ومن نسف خرافة الغدير… يولد وعي التحرير وتكتمل معركة اليمنيين ضد العنصرية والتكفير.

مقالات الكاتب