فتح الطرقات معيار للمسؤولية الأخلاقية
في زمن تتداخل فيه الجغرافيا بالمعنى، يغدو الطريق أكثر من مجرد ممر يُفضي إلى جهة، بل يصبح استعارة للكرامة الإنسانية، ولمدى حضور الدولة بوصفها راعية للحق لا طرفاً في المساومة. فالطريق المفتوح لا يعني فقط انسياب السيارات، بل انكشاف النوايا، وقياساً دقيقاً لمفهوم الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه الإنسان العادي الذي ظل محاصراً بالجبهات والأسلاك والمخاوف. ومن هنا، لا تُقاس أهمية فتح الطرقات بمعايير فنية أو لوجستية، بل بما تعنيه من إقرار ضمني بأن احتكار المعاناة لم يعد ممكناً إلى ما لا نهاية.
فالطرقات المغلقة كانت دائماً مرآة للذهنية الميليشياوية التي تتغذى على تفكيك الروابط بين اليمنيين، وتحيا على التشظي اليومي. أما إعادة فتحها، فهي لحظة فارقة تختبر صدق التوجه نحو إعادة الاعتبار لفكرة الوطن بوصفه مساحة مشتركة لا حقل ألغام. وهذا ما يجعل من خطوة كهذه، مهما بدت صغيرة، فعلاً سياسياً في جوهره، يُعيد مساءلة مَن يحكم، وكيف، ولماذا لا يزال اليمني عالقاً على قارعة انتظار طويل لوطن يُفتح له كما تُفتح الطريق: دون قيد أو لغرض.
وفتح الطريق الرابط بين دمت ومريس ليس مجرد حدث خدمي عابر، بل لحظة اختبار مركّبة لجدية الأطراف المتصارعة في التعاطي مع المعاناة اليومية للمواطنين بعيداً عن استثمار الجغرافيا كورقة ضغط. فإن يُعاد فتح شريان يربط عدن بصنعاء بعد سنوات عديدة من الانقطاع، في مشهد اختلط فيه الفرح الشعبي بالخوف الكامن من انتكاسة مفاجئة، إنما يعني استعادة جزئية لمفهوم الحياة الطبيعية بوصفها حقاً، لا منّة من أحد.
بيد أن هذا الحق لا يمكن تثبيته دون وجود ضمانات حقيقية وإجراءات أمنية خاضعة لمراقبة طرف ثالث، باعتبار أن الخلل المحتمل ليس حادثاً استثنائياً بل نهجاً مستمراً لجماعة قامت على تقويض الدولة بالقوة.
وفي هذا السياق، فإن الدفع بكل جهد ممكن باتجاه فتح الطرقات ليس فعلاً إنسانياً فحسب، بل هو فعل سياسي بامتياز يتصل بجوهر العقد الاجتماعي الممزق. فحاجات الناس المرتبطة بالتنقل والأمن والمعيشة ليست تفصيلاً يمكن تأجيله، بل مدخل لبناء الثقة التي لا تزال مفقودة، لا بين الأطراف فحسب، بل بين المواطن والدولة ذاتها. وإذ تبدو خطوة فتح الطريق مؤشراً إيجابياً في الظاهر، فإن استمرار وجود العوائق – من ما هو مُدمّر إلى ما هو مفخخ – يذكّر بأن كل تقدم في ملف المسارات الإنسانية لا بد أن يكون مشفوعاً بيقظة دائمة، تفرّق بين الفعل الجاد وبين المناورة التي تتقنها قوى الانقلاب.
إنّ اختبار النوايا لا يتحقق بالتصريحات ولا بالمبادرات المنقوصة، بل بإجراءات ملموسة تُخرج الإنسان من موقع الضحية إلى موقع الشريك في الحياة العامة. ففتح طريق واحد، وإن بدا تفصيلاً في مشهد الحرب الكبير، يكشف عن بُعد أخلاقي مفقود لدى من اعتادوا على جعل التضييق أداة للهيمنة. هنا، لا يصحّ الاكتفاء برصد الحدث، بل يجب قراءته كعتبة لما ينبغي أن يكون: مساراً نحو استعادة السياسة من قبضة السلاح، وتحرير الجغرافيا من سلطة الابتزاز.
*نقلاً عن المصدر أونلاين