اليمن والحوثي ومأزق ذاكرة السمكة
ربما لم يستفد أحد من معركة غزة كما استفادت منها جماعة الحوثي في اليمن، فقد اختطفت هذه الجماعة فرصة تاريخية، ما كانت حتى تحلم بها، بموقفها المعلن من حرب غزة وإعلانها استهداف السفن المتجهة إلى موانئ دولة الكيان الصهيوني، ولقد شكل هذا الموقف بالنسبة للجماعة منقذاً مهماً من أزمتها الداخلية في مناطق سيطرتها، وربما تغسيل سمعتها لدى قطاع واسع من الشارع العربي.
لا يمكن تجاهل ما قامت به جماعة الحوثي وتعاطيها السياسي مع عدوان غزة الصهيوني، وكيف تمكنت من توظيف هذا العدوان الهمجي ضد أهلنا بغزة لصالحها بذكاء.. وموقفها هذا ليس بدعاً، فهو موقف تكتيكي ذكي لما يُسمى بمحور إيران وحلفائها أو محور المقاومة، الذين يتخذون من القضية الفلسطينية شعاراً على مدى أكثر من عقد من الزمان، تمددوا من خلاله وأسقطوا عواصم عربية عدة بحسب تصريح سابق لعلي رضى زكاني، وهو مسؤول برلماني إيراني عن طهران حينها، عقب سقوط العاصمة اليمنية صنعاء في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م بيد جماعة الحوثي، فقد قال حينها إن صنعاء رابع عاصمة عربية تسقط بيد إيران.
فجماعة الحوثي، التي تأسست في بداية تسعينيات القرن الماضي كجماعة زيدية دعوية ثقافية، انبثق عنها حينها حزب الحق، الذي غادره مؤسس الجماعة حسين الحوثي بعد هزيمة الحزب انتخابياً في أول انتخابات برلمانية يمنية، عقب قيام الوحدة اليمنية في أبريل ١٩٩٣م، ومغادرته للعاصمة صنعاء إلى مسقط رأسه صعدة، وهناك بدأ دعوته ونشاطه الفكري والمسلح معا، حيث ظلت الجماعة تجند الأطفال وتعيد إحياء الفكر المذهبي الزيدي، القائم على فكرة الإمامة والحق الإلهي في الحكم لما يُسمى بالهاشمية السياسية.
وما إن جاء عام ٢٠٠٤م، حتى تفجرت أولى الحروب والمواجهات بين قوات الحكومة اليمنية ومليشيات هذه الجماعة، والتي انتهت جولتها الأولى بمقتل زعيم الجماعة حسين الحوثي، ولكنها استمرت في تمردها مستفيدة من حالة الانقسام السياسي في اليمن حينها بين أركان الدولة وبين القوى السياسية، ما جعلها تشن ما يقارب ست جولات من الحروب في صعدة، سقط جراءها آنذاك ما يقارب مئتي ألف قتيل يمني.
ومع تباشير ما سُمّيت بموجات الربيع العربي، انضمت الجماعة إلى ساحات التغيير اليمنية بدون سلاح، وكمنت في تلك الساحات طويلاً ترتب صفوفها وتهندس تحالفاتها، رافضة لكل مسارات العمل السياسي حينها الممثل بالمبادرة الخليجية التي رفضتها، ولكنها شاركت في الحوار الوطني كمُخرج لتلك المبادرة.
وما إن بدأت الأوضاع بالاستقرار من خلال إعداد دستور جديد للبلاد، وتحديد المدة الزمنية للذهاب إلى انتخابات ديمقراطية، ومن ثم الانتقال بالبلاد سياسياً، حتى كانت الجماعة قد شكلت حلفاً مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتمكنت بهذا التحالف من السيطرة على مفاصل المؤسسات العسكرية والأمنية وشبكة علاقات صالح المشيخية، التي تمكنت بها الجماعة بعد ذلك من مواصلة الحرب حتى إسقاط العاصمة صنعاء.
وبإسقاط الجماعة للعاصمة اليمنية في سبتمبر ٢٠١٤م اشتعلت حروب ضارية في معظم مناطق اليمن، إذ ساهمت الخيانات والصراعات الحزبية، وتواطؤ المجتمع الدولي حينها، في تمدد مليشيات الجماعة – بعد سطوها على مقدرات الدولة العسكرية والأمنية والمالية- نحو معظم المدن اليمنية، التي بدأت بتشكيل خلايا مقاومة شعبية تمكنت من هزيمة المليشيات في محطات عدة حتى قبل دخول التحالف العربي، الذي أدى دخوله وتحكمه بإدارة المعركة إلى أن تأخذ تلك المقاومة منحى أقل حماساً من السابق، بفعل سياسات أطراف التحالف المتضاربة والخفية.
أما جماعة الحوثي، فإنها بفعل ما لديها من مخزون كبير من سلاح الدولة والجيش اليمني السابق، الذي كان يعد خامس أقوى حيش عربي، قد تمكنت من استخدام هذه الترسانة في قصف وتدمير المدن اليمنية كعدن وتعز تحديداً ومأرب، وسقط بهذه الأسلحة آلاف اليمنيين، وتحول مئات الآلاف إلى نازحين داخل اليمن؛ كما شنت الجماعة حملة اعتقالات في مناطق سيطرتها وزجت بآلاف الشباب اليمنيين في السجون والمعتقلات، وخاصة من المدنيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالحرب، وهم لايزالون في معتقلات الجماعة حتى اللحظة.
إن أسوأ أزمة تعيشها اليمن منذ ثماني سنوات وحتى اليوم، هي قصة حصار جماعة الحوثي لمدينة تعز، التي يقطنها ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة، حيث إن المدينة محاصرة وتتعرض للقنص والقصف الدائم من قبل مليشيات جماعة الحوثي، وحتى هذه اللحظة التي تدعي فيها جماعة الحوثي أنها حريصة على فك الحصار عن غزة.
لم تكتف الجماعة بهذه الأعمال الإجرامية، بل عمدت لإعادة تشكيل المجتمع في المناطق التي تسيطر عليها بسياسات وأساليب شتى، فكان أول أهدافها إعادة تشكيل ثقافة المجتمع من خلال خطاب طائفي فاقع في منابرها الإعلامية المختلفة، إضافة إلى تغيير أئمة المساجد والخطباء، وتغيير مناهج المدارس وإحلال مناهج طائفية بديلا عنها، عدا عن مصادرة كل المؤسسات الإعلامية والمدنية المخالفة لها، وفرض لون واحد من الخطاب والتوجه في مناطق سيطرتها.
إن تاريخ اليمن كله لم يشهد اعتقال النساء والأطفال إلا بالجرم الجنائي الواضح، أما في عهد جماعة الحوثي فقد تم اعتقال نساء خصومهم السياسيين وإيداعهن في السجون والمعتقلات، ولم يسلم من ذلك حتى الأطفال؛ ولم تكتفِ الجماعة بهذا، بل أوغلت في شيطنة خصومها وتكفيرهم بفتاوى صدرت عن مراجعها.
ورغم ذلك كله، مضى اليمنيون إلى محاولة السلام والتصالح مع هذه الجماعة، ومحاولة نسيان الماضي الدامي، وذهبوا لجولات عدة في ظهران الجنوب في ٢٠١٦ و جنيف ٢٠١٥ والكويت ٢٠١٦م وصولاً إلى استكهولم ٢٠١٨م، ورغم كل هذه الجهود للبحث عن السلام كانت الجماعة هي الطرف الذي يرفض دائماً التوقيع على مخرجات هذه الجولات من السلام برعاية أممية وعربية ودولية، ما أطال الحرب وأدى إلى سقوط ما يقارب ثلاثمئة ألف يمني فيها قتلى.
أما على أرض الواقع، فلقد تسبب انقلاب هذه الجماعة ليس فقط في إسقاط الدولة اليمنية، وإنما أيضا في تفكيك الجغرافيا اليمنية، وتقسيم اليمن واقعاً إلى دولتين لا تتفقان بشيء، لا بالعملة ولا بالمناهج ولا بالخطاب الإعلامي ولا الثقافي، ولا حتى في توقيت المناسبات الدينية المختلفة وحتى الرسمية منها كصيام رمضان والأعياد وغيرها؛ ما يضع اليمن على مفترق طرق عدة، وخاصة مع الوضع الجديد الذي تشكل في ضوء معركة طوفان الأقصى ومحاولة انخراط الجماعة في حرب غزة، هروباً من تحمل مسؤولياتها الداخلية الكثيرة التي عجزت عن الإيفاء بها، كرواتب الموظفين التي صادرتها منذ ٧ سنوات.
وبالتالي، فإن انخراط الجماعة في معركة غزة ليس الهدف الجوهري والرئيس منه هو نصرة غزة قطعاً، وإنما الهدف منه هو تسجيل حضور ووجود للجماعة على أهم طرق وممرات الملاحة الدولية، ممثلة بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن.. بمعنى أخر، إعلان الجماعة أنها قادرة على لعب دور أمني خطير على طريق الملاحة، وأن على المجتمع الدولي أن يضع هذه التطور الجديد في الحسبان.
يصر الحوثيون اليوم، ويبالغون في خطابهم الإعلامي المُتضخِم بخصوص حرب غزة وأزمة الملاحة جنوب البحر الأحمر، ويؤكدون على أن هدفهم هو فك الحصار عن غزة، وأنه سبب تصعيدهم العسكري هناك، وهو فعل جيد بالعموم لا يعارضه اليمنيون أو العرب.. لكن، حينما نعرف أن نصرة غزة ليست سوى شعار يرفعه الحوثيون للحصول على شرعية يفتقدونها لحكم اليمن، بفعل انقلابهم وحروبهم الدموية المستمرة ضد اليمنيين، فلا يمكن أن تغيب مثل هذه الحقيقة عن اليمنيين وغيرهم.
اعتقد الحوثي وبعض المتحولين لجانبه، وهم قلة ممن يعملون ضمن أجندات خارجية مكشوفة، أنه يمكنهم استغباء المواطن اليمني، وأن اليمني بذاكرة السمكة التي تذهب لتتغذى من سنارة الصياد وتكرر غباءها آلاف المرات، وتقع في نفس الفخ والمأزق؛ هذا ما يعتقد الحوثي وداعموه إمكانية أن يُحدثوه في الحالة اليمنية، متجاهلين حجم الإجرام الذي مارسته جماعتهم ضد خصومها، وهم عموم الشعب اليمني.
لن ينسى اليمنيون مشاهد الدم، والدمار الذي حل بالمساجد ودور القرآن والمدارس وبيوت خصوم الحوثي، التي فجروها في كل منطقة وصلوا إليها.. لن ينسى اليمنيون صور شهدائهم ولا معتقليهم ولا مشرديهم ولا لاجئيهم في أصقاع الأرض، ممن طالهم أذى هذه الجماعة المليشيوية الطائفية، التي لا تؤمن بفكرة الدولة ولا بحق الناس في الحياة إلا وفق تصورها الطائفي الضيق، الذي يرى في خصومها كفار تأويل مستباحي كل شيء، بحسب فتوى إمامهم القاسم الشهيرة بـ”إرشاد السامع لجواز أخذ أموال الشوافع”، وغيرها من فتاوى التمييز الطبقي والطائفي والمذهبي، ولا يعلمون أن اليمني إنسان حر وأصيل، ومنسوب الكرامة لديه عالٍ جداً، وليس في جمجمته ذاكرة سمكة.