ترميز غزة

الترميز عملية معقدة تمر بمراحل عدة، يتحول بموجبها شخص ما، شيء ما، مدينة ما، حكاية ما إلى رمز، عندما يتراكم كمٌّ كبير من الدلالات المرموزة التي تم اكتسابها ضمن هذا الرمز على مدى فترات طويلة من عمليات الترميز المتواصلة.

وفي اللغة تحيل كلمة «رمز» على الإشارة، والإشارة هي حركة تتجسد في إيماءة يد أو «رمزة – غمزة» عين، أو ما شابه، وهي قرين الصمت، وتكون الإشارة عندما تتعذر العبارة، حيث تحيل حركة ما أو إيماءة ما على المدلول، فيتم التعويض عن العبارة بالإشارة، عندما تضيق العبارة عن توصيل الدلالات، حسب القول الشهير للنفري: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».

وهكذا يتحول الأشخاص والأشياء والأحداث والمدن إلى رموز تنفتح على دلالات متعددة، ذات سياقات اجتماعية أو ثقافية أو دينية أو سياسية، حسب العوامل التي ساعدت على عملية «الترميز الدلالي» لهذه الرموز.

وهناك الكثير من المدن التي أصبحت رموزاً معبأة بدلالات تتخطى كونها مدناً، والكثير من الرجال الذين أصبحوا أيقونات رمزية تحيل على دلالات مكثفة، والكثير من النساء اللاتي أصبحن رموزاً مشحونة بدلالات بعيدة عن مجرد كونهن إناثاً، والكثير من الحيوانات والأشياء والأحداث التي أصبحت لها رمزية أعمق مما تحيل عليه بنيتها اللغوية من دلالات.

براقش – مثلاً – رمز لدلالات الجناية على الذات، وطروادة ترمز للفخ الذي يتيح القدرة على الغزو من الداخل، وأما غزة فتتشكل فيها رمزية منفتحة على دلالات متعددة منها: الصمود والمقاومة والثبات، عبر عقود طويلة من النضال تجلت فيها غزة تكثيفاً مادياً لكل دلالات الكفاح والجهاد في سبيل التحرر من الاحتلال، لتظهر إلى جانب مدن أخرى دفعت ضريبة باهظة على طريقها الطويل نحو الترميز والتحول من الجغرافيا إلى تاريخ.

ومن شروط المدن التي تتحول إلى رمز للتحرر من الاحتلال ومقاومته أن تدفع ضريبة كبيرة من الدم، وأن تتحرك في فضاء يسوده الصمت التام والهمود الذي يشبه الموت، وذلك كي تحظى المدينة/الرمز بالفرادة التي تحتوي كل الجغرافيا، وكل التاريخ، حيث تقترن كرمز بدلالاتها العميقة بغض النظر عن المكان والزمان، وتصبح حاملة لدلالاتها لدى كل الثقافات والأديان وفي كل اللغات.

واليوم عندما تذكر غزة فإن المعنى المرموز الأبرز والدلالة المكثفة الأعمق لهذا الرمز تدور حول المقاومة والتحدي والصمود والثبات والإيمان.

وإذا كانت هذه الدلالات متضمنة في الرمز الكبير «غزة»، فإنها كذلك مرمَّزة ضمن جزئيات هذا الرمز ومكوناته الجغرافية المختلفة التي تعمل كرموز جزئية وروافد دلالية، تصب في المجرى الكبير لقاموس الدلالة الرمزية الغزاوية.

ومن تلك الجزئيات التي تشكل الرمز الغزاوي تطالعنا خريطة غزة برموز جزئية تنتمي للحقل الدلالي ذاته، من مثل: الشجاعية، الشاطئ، بيت حانون، بيت لاهيا، جباليا، وخان يونس ورفح وغيرها من جزئيات المشهد الغزاوي الكبير المنفتح على دلالات لا حصر لها، تحوم حول مفاهيم الحرية والنضال والمقاومة والجهاد، وغيرها من مفاهيم مرتبطة بحقل سيميائي واحد ينفتح عليه الرمز الثري «غزة»، التي لم تعد بقعة جغرافية، ولكنها تحولت إلى تاريخ، معنى، دلالة، قيمة، رسالة وإيمان.

وإذا أصبحت رمزية غزة منفتحة على دلالات الصمود والمقاومة فإن دلالات أخرى لا ينبغي إغفالها أصبحت متضمنة في البنية السيميائية لهذا الرمز، حيث تشير غزة إلى دلالات الكارثة والدمار والألم الذي هز ضمير العالم كله، ماعدا بعض الاستثناءات المرتبطة بمصالح سياسية واقتصادية هنا وهناك.

وإذا شكلت دلالات المقاومة والصمود والإيمان المنحى الإيجابي للرمز فإن دلالات الدمار والخراب والألم تمثل بدورها المنحى السلبي لهذا الرمز، ولا يكتسب رمز ما عمق دلالاته الإيجابية إلا بعمق الدلالة السلبية التي تعمِّق الدلالات الإيجابية، وكأن الدلالات السلبية التي ينفتح عليها الرمز هي الثمن المستحق، لكي يتم تعميق المنحى الإيجابي ضمن البنية اللغوية للرمز الذي يكتسب أبعاداً عالمية تتخطى الحدود والمسافات، كما تتخطى اللغات والثقافات.

والواقع أن رمزية غزة لا تكتفي بمراكمة الدلالات المذكورة، ولكنها تنفتح كذلك على دلالات أخرى، منها دلالة «الصدمة» التي هزت المجتمع والدولة في إسرائيل، إزاء انكشاف عورة جيشها «الذي لا يُقهر»، وإزاء انكشاف طبيعة مجتمعها الموبوء بالعنصرية المرضية والتعصب الديني والعرقي، والكثير من التناقضات التي لا تهدد وجود الدولة وحسب، ولكن تهدد وجود المجتمع، في ظل «حكومة الحاخامات» الحالية، حيث لا يمكن التفريق بين الدولة والمجتمع، ولا بين الدين والجين في إسرائيل، وبالتالي فإن الخطر على الدولة يعني الخطر على وجود المجتمع، حيث إن سقوط الدولة يعني أن يعود مواطنوها مزدوجو الجنسية إلى البلدان التي وفدوا منها، أو وفد منها آباؤهم أو أجدادهم خلال عقود مضت، وهذا هو تفسير تصريحات المسؤولين في إسرائيل بأنها تواجه معركة وجود.

وفي حين ترتقي غزة رمزاً عالمياً، فإن إسرائيل تتهاوى يوماً بعد يوم، في عملية مستمرة تتسع بها غزة لتشمل خريطة العالم، فيما تتضاءل فيها إسرائيل لتُختصر في جيب احتلالي وحيد في العالم.

بالإضافة الى دلالة الصدمة التي أحدثتها غزة في العالم وفي إسرائيل فإن رمزية غزة قد أحدثت صدمة واسعة لدى العرب الذين أفاقوا على وعيهم المغيب، ووجدانهم المتشظي، وواقعهم المؤلم وقد قدمته لهم غزة عارياً، فيما هم يحاولون أن يخصفوا عليه من ورق اللغة، لتجاوز صورته التي كشفتها غزة دون تحسينات بلاغية أو تزويق خطابي، وهي الصورة التي ظهرت فيها إسرائيل دولة صديقة، وظهرت غزة كياناً «إرهابياً»، قبل أن تستعيد كل من غزة وإسرائيل صورتيهما الحقيقيتين، وهما صورة دولة الاحتلال، ومدينة المقاومة.

ولكن غزة/الرمز، وكما جرحت برمزيتها الوجدان العربي الجريح في الأصل فإنها جعلت العرب يفيقون على كنوزهم الروحية والقيمية التي غطى عليها الغبار المنبعث من حروب «عشريتهم السوداء» الماضية، ومن انتكاسات العقود التي خلت، والتي طبعت وجدانهم بغير قليل من السوداوية والإحباط والفرقة والضعف وعدم الثقة بالنفس، الأمر الذي كاد أن يمحو من قاموسهم مصطلحات وكلمات من قبيل: «الأمة، العروبة، الوطن العربي، التضامن العربي، والقضية الفلسطينية، أولى القبلتين» وغيرها من المصطلحات التي أصبحت أشبه بمفردات لغة ميتة تبحث عمن يفك شفرتها، بعد أن فقدت دلالاتها بفعل الاستنزاف اليومي لتلك المصطلحات، على مذبح الحروب الأهلية والمناكفات البينية التي لا تنتهي، قبل أن يجرف طوفان غزة ركام المصطلحات والمفاهيم التي أفرزتها عقود ما قبل «الطوفان».

*نقلاً عن القدس العربي

مقالات الكاتب