الارتداد السحيق
المؤسف اننا غارقون في امتداح الماضي، وفينا من يستهويه التنقيب في قمامات ذلك الماضي، امتداح يقزم من احلامنا، واستهواء يعيد انتاج صراعاتنا، مما يجعلنا ماضويين، فاقدين القدرة على ان نكن فاعلين في الحاضر، لنصيغ مسار المستقبل، ونبني دعائم ذلك المستقبل وفق المتغيرات والمشتركات التي تعطي مساحة واسعة للتعاون والبناء المشترك.
حملنا هم التغيير ورفعنا راية الوطن الكبير، واصطدمنا بمعوقات غلبتنا، واستسلمنا للفشل، وتراجعنا للخلف، على امل ان يكون تراجعا حميدا، يعيد ترتيب الانطلاق الأفضل للمستقبل، واذا به تراجعا خبيثا اعادنا لماضي مقيت، وارتداد سحيق عن كل ما انجزناه وحققناه، ارتداد انهارت فيه قيمنا المتجذرة، ومبادئنا الاصيلة، وتصدر مشهد الارتداد كل ما هو وضيع وجاهل ومتهور، فتصدعنا واحدثت تصدعاتنا شروخا، تسللت منها كل سموم العالم المتخلف، وكل فيروسات التعصب، وكل بلاوي وقذارة الماضي الرث، وكل الفاسدين واللصوص والطامعين والمتسللين، واذا بالثقافة تنهار والأخلاق تتدهور، والنظرة المستقبلية تغيب، وعدنا لعصبيات ما قبل الدولة، وما قبل الثورات التحررية الكبرى، فقدنا إنسانيتنا وروحنا الوطنية، وعدنا باحثين في تراكمات الماضي وقماماته ما يبرر كل هذا الارتداد، التي تماهى معه البعض، واليوم يصرخا الما من نتائجه، ارتداد سحيق لتطلعاتنا، لمستوى ادنى مما كنا نتصور، للمناطقية والطائفية، التي ضاقت حلقاتها لمستوى القرية والاسر الأرستقراطية الاقطاعية، وعادوا بنا لنفتش في شهادات الميلاد، والاصل والفصل.
أخطر ما في هذا السقوط هو تغييب ثقافة الاختلاف، الذي أدى لشخصنة الأمور، وافرز أسوأ ما فينا من كره وحقد وتشفي، تفننا في شتم واتهام وتخوين بعضنا بعض، بسقوط أخلاقي غير مسبوق، مخطط لأسقاط امة عريقة، «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا» .
الاختلاف بحد ذاته وعي وثقافة، بل هو علم في امزجة الافراد النفسية والعقلية، في الفروق الفردية لتصور الوجود، وقد اثبتت الدراسات (السيكولوجية والاجتماعية) أن القدرات العقلية للفرد لا يمكنها أن تتطور إلا مع الآخر المُختلف، أي في ظل التدافع المعرفي والجدال العلمي، بوصفه الأفضل للتطور الذهني والثقافي.
الاختلاف هو حالة حيوية للمجتمع تدعم الحرك الفكري فيه، ولا يمكن فهمه او وصفه غير انه نتاج للعقل وتفاوت قدراته واختلاف نظرته للحياة، ولهذا يحتاج الخلاف لمستوى وعي عالي، يثري المجتمع، ويبحث عن المشتركات التي تعطي مساحة أكبر للتوافق والاتفاق.
معاركنا العبثية التي نعيشها، هي معارك اختلاف مع جاهل ومتخلف ومتهور، مع الشطط والنطط العبثي، مع لا وعي ولا ادراك ولا منطق، فكان اختلافا عبثيا، تحول لنقمة، تنطع فيه فحش الكلام، وردأة التعامل ، وشخصنة الأمور، وتعزيز الصراعات والفرقة والشتات، وتبرز الاتهامات والتخوين، لتتفوق ثقافة الاستبداد، التي قد تصل لتدمير روح المختلف معنويا وروحيا، ولتشار اليه أصابع الاتهام، ويمكن تحليل دمه وعرضه وكل ما يملك، كما نلاحظ اليوم، سجون تكتظ بالراي المختلف، تكتظ بدعاة التغيير والتجديد والتنوير، والسجان جاهل مثخن بالعصبية بعقل اجوف، وعبد للماضي والصنم.
ولهذا تحكمنا اليوم اصنام صنعها لنا الأوصياء، اردونا الارتهان بها، لنكن مرتهنون لهم وعبيد لأصنامه، فلا يغرنك كلام المزايدة باسم وطن وقضية، تموت فيها الإنسانية والحرية والمواطنة، وتعود بنا لعهد العبودية، ولله في خلقه شئون.