غزة تكتب أسماء أطفالها في جبهة التاريخ
بين جرائم الصهيونية التي قتلت خلال عشرين يوم أكثر من 7 آلاف مدني غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة تنتصب غزة شاهدةً على بربرية الاحتلال وهمجيته، ومؤكدةً صمود الأبطال وشجاعتهم، وإن كان يصعب الجمع بين بشاعة الجريمة وشجاعة المقاومة، ففي غزة يحدث المستحيل ويجتمع الضدان، جريمة الإبادة الجماعية وإرادة الحياة الحرة الكريمة.
غزة تتحمل أضعاف ما وقع على هيروشيما وناجازاكي لكنها لم تستسلم كما فعلتا، ولم تعلن الهزيمة، لم تُوقّع على صكوك الاستسلام، ولم تركع أمام أقدام القتلة، ترجو منهم العفو والسماح على ما اقترفته من فعل المقاومة والتحدي لأكثر من 20 عاماً مضت.
غزة اليوم تتعرض لحرب إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كلما خطّه خبراء القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مما لم يخطر على بال الشياطين، من جرائم وانتهاكات باتت أمراً واقعاً يحدث يومياً على أرض غزة وفي سمائها، إنها حرب إبادة يقودها أكابر مجرمي الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل، وبدعم من القوى والدول العظمى التي أصمت آذان العالم وهي تتحدث عن حقوق الإنسان وحرية الشعوب وحق تقرير المصير، والعدالة والأمن الدولي والسلام العالمي، لكن سرعان ما كشفت عن وجهها القبيح، وهي تمنح المجرمين صكوك الغفران والبراءة، بل وتغدق عليه بالدعم والتمويل والتسليح، وتمنحه الغطاء ليواصل قتل الأطفال، في شريعة الغاب لا حقوق للإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم، ولا حرية لشعب يناهض احتلالاً زرعته أوروبا في قلب الوطن العربي، ورَعَتْه بريطانيا ودعمته – ولا تزال- الولايات المتحدة، وبالتالي ففي عُرف المجرمين وشركائهم لا عدالة يستحقها من يقاوم البغي الصهيوني، ولا سلام يرفرف بجناحيه حولهم ما لم يعلنوا الخضوع والإذعان لشذاذ الآفاق الذين لَفَظتْهم الأمم وتقيأتهم الشعوب.
أكثر من 7 آلاف روح بريئة أزهقتها حرب الاحتلال الهمجي حتى اليوم، ولا زالت آلة القتل والدمار تعمل ليل نهار دون توقف، نحو 400 روح أزهقت خلال آخر 24 ساعة، ولا يزال القتلة يتوعدون بسفك المزيد من الدماء، المزيد من القتل والإبادة، المزيد من القصف والدمار، من شرق غزة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، كل شبرٍ في غزة تستبيحه طائرات القتل اليومي ومدافع الإرهاب الآثم المتواصل.
في غزة يكتب الأطفال الصغار أسماءهم على أياديهم لكي يسهل التعرف عليهم بعدما تتعرض منازلهم للقصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف، تصير الأسماء أوسمة مجد في صفحات التاريخ، ناصعة مثل غزة، وحرة مثل غزة، وفي غزة كل شيء معرض للقتل والقصف والحرب، الأطفال والنساء، المنازل والمساجد، المدارس والمستشفيات، الأحياء والشوارع والمساكن والطرقات، كل الأشياء والأحياء عُرضة للموت بأيادٍ أدمنت القتل وارتكاب المجازر الوحشية ضد الأبرياء العزل منذ ابتليت بهم أرض فلسطين وشعبها.
في غزة ترتفع أرقام الشهداء والجرحى والمفقودين كل ساعة وفي كل دقيقة وثانية، لا تثبت الحال على حال واحدة، ولا تستقيم الأوضاع على وضع محدد، في غزة تُنهش أرواح الأبرياء في كل لحظة وفي كل حين، لكن العالم لا يكترث بما يجري هناك، لن تهتز ضمائر المجتمع الدولي، ولن يتحرك مجلس الأمن، ولن تجتمع الأمم المتحدة، وباستثناء مواقف الشعوب الحرة لا يزال الغالبية يجترون موقف واشنطن الداعم للكيان الإسرائيلي، وستظل دماء الأطفال تسفك على مرأى ومسمع من العالم كله، لا الصديق القريب قادرٌ على النجدة ولا العدو الجبان راغبٌ في الكفّ عن اقتراف المزيد من الجرائم، لا وسطاء حتى اللحظة بين غزة وجيش المعتدين، ولا صوت يعلو فوق صوت القصف، ولا صورة تظهر سوى صور الدماء تلطخ وجوه القتلة وأياديهم وتفضح شركاءهم وداعميهم، كما وتكشف كل المتواطئين معهم.
حتى جامعة الدول العربية لم تفق من سباتها إلا لحظة واحدة، حين تداعى وزراء الخارجية في بيان باهت يستجدي من الاحتلال الإسرائيلي حُفنة سلام، شريطة أن تقبضها ذات اليد التي امتدت للسلام المزعوم قبل ثلاثين سنة في أوسلو وما بعدها، اقترح بيان وزراء الخارجيات العرب أن يكون سلام إسرائيل المأمول مع منظمة التحرير الفلسطينية، فهي "الممثل الشرعي والوحيد.."، وتلك حكاية قديمة كان لها بريقها الخادع في العام 1965، أما اليوم فلم يعد أحد – غير جامعة البيانات العربية- يكترث للتمثيل بعدما صارت المقاومة هي لسان الحال والمقال لشعب فلسطين، وقد أثبت ذلك خلال الانتفاضات المتعاقبة ضد الاحتلال وجرائمه وحلفائه، وضد صفقات المساومة والتطبيع، السلام الذي كشفت الأحداث أنه لم يكن سوى سراب حسبه المطبّعون ماء.
20 يوماً من الحرب الوحشية التي تتعرض لها غزة على أيادي الصهاينة كانت كفيلة بتحريك القريب والغريب، لكنها دماء غزة الطاهرة تبقى أشرف وأنقى من أن تلوثها الأيادي الوالغة في إثم التطبيع والضمائر التي غفت منذ سبعين عاماً على الاحتلال، وتظل دماء غزة التي تنزف اليوم في معركة الكرامة أكبر وأغلى وأعظم من كل الصفقات التي أبرمها تجار القضايا والمواقف، بما فيها صفقة القرن اللعينة التي كشفت غزةُ سوءَتها، كما تكشف سوءات كل من أضمر الغدر بفلسطين الأرض والقضية والنضال والمقاومة.
ارتبط اسم غزة بفعل المقاومة، وبات من الصعب الحديث عن غزة دون مقاومة، كما ويصعب الحديث عن المقاومة الفلسطينية دون غزة، الاسم: غزة والفعل: مقاومة، الفعل والفاعل، المبتدأ والخبر، مبتدأ التحرير وخبر النضال والمقاومة، لا انفصال بين غزة والصمود، بل هو اتصالٌ وثيقٌ أساسه الأرض المباركة والشعب الحر المقاوم، وهو اتصال بين التاريخ والجغرافيا، تاريخ يضرب بجذوره في الأعمال آلاف السنين، وجغرافيا انتصبت فيها معالم النضال وارتسمت عليها ملامح المقاومة.
كانت غزة وستبقى الكابوس الذي أرق زعماء الاحتلال منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين، قال يوماً رابين إنه يتمنى أن يستيقظ يوماً وقد ابتلع البحر غزة، البحر الذي يفتح ذراعيه لغزة كل صباح لم يبتلعها، لكن الرصاص التي أطلقها جندي إسرائيلي ذات صباح استقرت في قلب رابين لتجهز عليه وعلى أحلامه وأوهامه، وبقيت غزة كالشمس تشرق كل صباح حرية ومقاومة وصموداً.