غزة.. حرب جديدة بأهداف قديمة وتداعيات مختلفة
يشير اسم غزة في الغالب إلى الصمود الأسطوري في مواجهة الاعتداءات الصهيونية المستمرة، خلال أقل من عشرين عاماً تعرضت لـ5 حروب شنتها قوات الجيش الإسرائيلي، وقتلت الآلاف من المدنيين أطفالاً ونساء وشيوخ، كان الصهاينة يرتكبون أبشع الجرائم ضد غزة وأهلها، وسط صمت العالم وتواطؤ العرب والمسلمين إلا من مواقف شعبية مناصرة لغزة وفلسطين. لكن في الحصيلة كان قوات الاحتلال تنتهي من حربها مهزومة لم تحقق أي هدف من أهدافها التي أعلنتها أو أضمرتها مع بداية كل عملية عسكرية ضد غزة.
عربياً وإقليمياً، تقف الشعوب مع غزة، ويقف الحكام خانعين عاجزين عن اتخاذ موقف ضد إسرائيل حتى لا تغضب عليهم واشنطن الأم الحنون للكيان اللقيط. والحال ينطبق على مواقف الدول خارج محيطنا العربي، فالشعوب الحرة ترى في غزة رمز صمود وأيقونة مقاومة ضد الهمجية المدججة بكل أصناف الأسلحة.
منذ السابع من الشهر الجاري، وغزة تتصدر المشهد السياسي والإعلامي، كواجهة الأخبار والتطورات والقصف الإسرائيلي المتواصل الذي أدى إلى مقتل آلاف المدنيين، فيما لا تزال القيادة الإسرائيلية تتوعد غزة وأهلها بحرب برية قد تكون بعيدة المدى، ولن تتوقف آثارها وتداعياتها على القطاع والداخل الفلسطيني.
تعتبر غزة من أقدم المدن التاريخية، فقد بناها الكنعانيون قبل أكثر من 3 آلاف سنة، وفيما بعد احتلها الفراعنة ثم الرومان والإغريق والبيزنطيون والانجليز، دخلها العرب المسلمون في العام 635 ميلادية، وأصبحت مركزاً إسلامياً ضمن أهم المراكز في الحضارة العربية الإسلامية، حتى وقعت تحت الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الأولى، أو ما أسمته بريطانيا (الانتداب)، الذي مهّد لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الإسرائيلية في العام 1948.
بعد احتلال إسرائيل لعدد من المناطق الفلسطينية صارت غزة تحت الإدارة المصرية، إلى أن سيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي في حرب يونيو/حزيران 1967، وبعد اتفاقات أوسلو بين الصهاينة ومنظمة التحرير الفلسطينية صارت غزة ضمن مناطق السلطة الفلسطينية، انسحب منها الجيش الإسرائيلي في العام 2005 ثم أصبحت تحت سيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس التي حصدت الانتخابات التشريعية بداية العام 2006، ومنذ ذلك الحين تخضع غزة لحصار ظالم تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي وبدعم وغطاء إقليمي ودولي.
حروب إسرائيل على غزة
لم تتوقف حروب وهجمات العدو الصهيوني على قطاع غزة، فبعد انسحابه أحادي الجانب سنة 2005 شن حرباً همجية وبربرية أواخر العام 2008 وبداية العام 2009، وكان الهدف حسب قيادات إسرائيلية هو القضاء على حركة حماس.. في ذلك العدوان الذي استمر نحو 20 يوماً بلغ عدد الضحايا أكثر من 5 آلاف شهيد، و8 آلاف جريح، جميعهم مدنيون وغالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، فضلاً عن تدمير 20 ألف منزل. ومع ذلك خرجت غزة منتصرة رغم أنه ألقي عليها أكثر من 10 آلاف طن من القنابل ومنها قنابل محرمة دولياً. فيما انسحبت إسرائيل معلنة الهزيمة من خلال عدم تحقيق هدفها المعلن وهو القضاء على حركات المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس.
الاحتلال الإسرائيلي أعاد الكرّة بمهاجمة غزة مرة أخرى أواخر العام 2012، ثم عملية اعتداءات جديدة شنها منتصف العام 2014، من خلال عدوانه على غزة، وقد أطلق على تلك العملية (الجرف الصامد)، أما حركة حماس فأسمتها (العصف المأكول)، بينما أطلقت عليها حركة الجهاد (البنيان المرصوص)، وقد بدأ التصعيد بعد خطف وتعذيب الطفل الفلسطيني محمد أبوخضير، ثم دهس اثنين آخرين، الأمر الذي أشعل الاحتجاجات في مختلف مناطق فلسطين بما فيها الأراضي المحتلة عام 1948، وتم اختطاف 3 إسرائيليين وقتلهم، وفي تلك العملية ارتكب الجيش الإسرائيلي جرائم جديدة وألحق دماراً مضافاً في قطاع غزة. وفي كل مرة كانت إسرائيل تعلن أنها تهدف إلى القضاء على القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، لكن هذه الأخيرة كانت تخرج أقوى من السابق.
طوفان الأقصى
في هذه الحرب الراهنة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة يبدو الأمر مختلفاً عن المرات السابقة، فالسبب ليس مقتل جندي إسرائيلي أو اثنين كما حدث في حرب 2008، ولا اختطاف مستوطنين كما حصل قبيل حرب العام 2014، فما حدث في السابع من أكتوبر الجاري كان فوق كل الاحتمالات والتوقعات، هجوم فلسطيني نوعي أثبت ضعف إسرائيل وجيشها وأمنها ومخابراتها، لأن عشرات المهاجمين سيطروا على مناطق واسعة في إسرائيل، وتم أسر مئات الجنود والضباط فيما تجاوز عدد القتلى الإسرائيليين – وفق وزارة الصحة في تل أبيب ألف وخمسمائة قتيل.
الجيش الإسرائيلي الذي تقوده حكومة متطرفة ولها باع طويل في الجرائم والانتهاكات، تحرك هذه المرة صوب غزة وهو يعاني من الضربة التي أوجعته كما فاجأت العالم كله، ومع ذلك فثمة أشياء لا تبدو مختلفة عن الحملات الصهيونية العسكرية السابقة ضد غزة، الهدف هو ذاته لم يتغير منذ العام 2008، وهو القضاء على حركة حماس، كما أن الجريمة ذاتها تتكرر بالقدر نفسه من السقوط الأخلاقي الذي يجعل مرتكبيه في مستوى واحد مع النازية المتهمة من الصهاينة بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد اليهود، ضمن ما يطلقون عليه (الهولوكوست) أو المحرقة.
حالياً ينقسم العالم بين مجتمعات حرة تتضامن مع غزة، وقوى مجردة من الإنسانية تقف إلى جانب إسرائيل، تدعمها بالمال والمواقف والأسلحة لكي تواصل حربها ضد المدنيين في غزة، إسرائيل بالنسبة لهؤلاء ليست سوى ضحية تتعرض للاعتداءات المتواصلة من حركات المقاومة المحاصرة في قطاع غزة منذ نحو عشرين سنة.
بيد أن ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد أن ما يجري في هذه الحرب ربما يقود إلى نتائج وتداعيات مختلفة عما كانت تنتهي إليه الحروب السابقة، وبالنظر إلى المقدمات هذه المرة وردود الفعل عليها يبدو أن المنطقة ستكون أمام فصل جديد من الصراع العربي الإسرائيلي بعد نحو 75 عاماً من احتلال فلسطين.