إسرائيل الخائفة

متلك إسرائيل الجيش الأقوى تسليحاً في المنطقة بقوة عسكرية هائلة وسلاح نووي، لديها ضمانات أمنية من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة التي ترتبط بها إسرائيل بعلاقات استراتيجية ومصيرية. تتوفر إسرائيل على اقتصاد هو الأقوى في الإقليم، مع تطور كبير في الإنتاج الزراعي، وتوسع في استعمال التكنولوجيا في هذا القطاع، حتى أصبحت إسرائيل إحدى الدول القليلة في العالم التي تفاخر بخبراتها في التكنولوجيا الزراعية، ناهيك من التقدم الصناعي المذهل، عدا عن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

وإضافة إلى كل مقومات القوة المذكورة تتموضع إسرائيل وسط جوار عربي إما مرتبط بمعاهدات سلام، أو أقام علاقات طبيعية، أو منشغل بحروبه الأهلية أو مشاكله الداخلية، مع انهيار جيوش عربية، بفعل الحروب الأهلية، وحياد جيوش أخرى بموجب معاهدات السلام.

يفترض مع كل تلك المعطيات أن تتكرس عوامل الطمأنينة لدى الإسرائيليين، مع وجود «دولة مؤسسات ديمقراطية» قوية ومتفوقه في كل المجالات على جوارها العربي، ولكن ذلك مجرد وجه واحد من أوجه الحقيقة التي تتسع معها مشاعر القلق والخوف والشك لدى الإسرائيليين في قدرة دولتهم على البقاء لعقود مقبلة، حسب تقارير واستطلاعات رأي من داخل إسرائيل.

يقول الباحث اليهودي سيمون راويدوفيتش إن «العالم لديه العديد من الصور لإسرائيل، لكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها: صورة شعب يتلاشى، شعب على وشك التوقف عن الوجود إلى الأبد». ويرجع بعض الباحثين ذلك الشعور إلى «الخوف الغريزي» الذي يتملك الإسرائيليين من «الإبادة الجماعية» وهو الخوف الذي يدفعهم للعنف المبالغ فيه ضد جيرانهم العرب، حيث يندفع الإسرائيليون بغريزة الخوف الذي يفجر العنف المفرط الدال على الضعف أكثر من دلالته على القوة، وهي بطبيعة الحال محاولة تبريرية واعتذارية لجرائم إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين تحديداً.

والواقع أن «الخوف الوجودي» لدى الإسرائيليين يرتبط بالشعور بـ«الاستثنائية» الذي يجعل المجتمع الإسرائيلي اليهودي يشعر بالعزلة الشعورية عن العالم، على اعتبار أنه «شعب مختار» وأن إسرائيل «نور الأمم» وعلى اعتبار «وعد الله الأبدي» و«أورشليم العاصمة الأبدية الموحدة» وغيرها من عبارات يختلط فيها الديني بالسياسي والقومي، وتبعث على نوع من الخدر القومي والهوس الديني الذي لا يساعد على الاندماج الإنساني مع العالم، الأمر الذي يراكم عوامل الخوف والقلق لدى الإسرائيليين.

في أيار/مايو الماضي بلغ عمر دولة إسرائيل 75 عاماً، وهو عمر يفترض أن يكسب الإسرائيليين ثقة بمستقبل دولتهم، وقدرة جيشهم وقوة مؤسساتهم وتطور اقتصادهم، ولكن استطلاعات الرأي تقول غير ذلك، حيث يشعر غالبية الإسرائيليين بالخوف بشأن مستقبل هذه الدولة.

في 21 نيسان/أبريل الماضي نشر استطلاع للرأي عبر فيه 51٪ من الإسرائليين عن تشاؤمهم بشأن مستقبل الدولة، فيما قال 43٪ فقط إنهم متفائلون، وذكر 6٪ أنهم لا يعرفون، حسب ما ذكرت «تايمز أوف إسرائيل» نقلاً عن استطلاع القناة 12 الإسرائيلية.

وفي اليوم نفسه نشرت هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية نتائج استطلاع آخر قال فيه 48٪ من الإسرائيليين إن وضعهم «سيكون أسوأ في السنوات المقبلة» بينما قال 20٪ فقط إن وضعهم سوف يتحسن، أما 19٪ فقالوا إنه لن يتغير شيء، فيما قال 13٪ إنهم لا يعرفون.

هذه الحال من القلق وعدم الاطمئنان دفعت الكثير من الإسرائيليين للتقدم لطلب جوازات سفر أجنبية، وكأن جواز السفر الإسرائيلي مجرد «نصريح إقامة مؤقت يوشك على الانتهاء» حسب تعبير الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، مع تزايد التحذيرات من حرب أهلية على خلفية «الإصلاحات القضائية» التي تقدمت بها حكومة بنيامين نتنياهو، والتي تم تمريرها من طرف الكنيست، رغم حركة الاحتجاج الواسعة المدنية والعسكرية ضد تلك الإصلاحات التي بسببها عبر الكثير من الإسرائيليين عن قلقهم على «ديمقراطية إسرائيل» والتي ألغت قدرة المحكمة العليا على نقض قرارات مجلس الوزراء.

الإسرائيليون غير واثقين بمستقبل دولتهم إذن، وهذه حالة فريدة بين دول العالم، يشير جدعون ليفي إلى أن هناك عدداً قليلاً جداً من البلدان التي يتساءل الناس فيها عمَّا إذا كانت دولتهم ستظل باقية بعد بضعة عقود، مؤكداً أن الناس لا يطرحون مثل تلك التساؤولات في ألمانيا أو حتى ألبانيا أو توغو أو تشاد، ولكنهم يطرحونها بشكل ملح في إسرائيل التي رغم مفاخرة مواطنيها بقوة جيشها إلا أن خوفاً مصيرياً يعتريهم على مستقبل تلك الدولة.

العام الماضي سعى أكثر من 20 ألف إسرائيلي للحصول على جنسية البرتغال، فيما تجاوز عدد الإسرائيليين المتقدمين للجنسية البرازيلية 18 ألفاً، حيث أوضحت صحيفة جيروزاليم بوست أن الأوضاع الأمنية والتقلبات السياسية في إسرائيل تأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع الإسرائيليين للهجرة العكسية والتقدم لطلب جنسية بلدان أخرى.

ومع الزمن تُراكم سياسات إسرائيل من مشاكلها، وهذه بدورها تُراكم مستويات القلق لدى شعبها، فإسرائيل اليوم لا تستطيع المضي قدماً في حل الدولتين بفعل توسعها في بناء المستوطنات التي قضت على هذا الحل، وفي الوقت ذاته لا يمكن للإسرائيليين أن يتصوروا وجود دولة لشعبين بأغلبية – أو حتى بأقلية – فلسطينية بين النهر والبحر، وبالتالي إذا كان حل الدولتين يمثل نهاية الحلم الصهيوني القائم على الاحتلال والاستيطان، فإن حل الدولة الواحدة يعني كابوساً وجودياً ليهودية الدولة، وهذان هما الخياران المران اللذان وجدت إسرائيل نفسها بينهما – بفعل سياساتها – بعد خمسة وسبعين عاماً من قيامها.

من هنا تظهر إسرائيل قلقة، خائفة، متوجسة، سعى رئيس وزرائها لتعديلات حول قانون الخدمة العسكرية، لضمان استمرار التجنيد والاحتياط، وسعى لمنع قضائها من التدخل في سياساته، الأمر الذي يعكس قلقاً من تدخلات هذا القضاء، وهذا بدوره وسع دائرة الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي.

إنه بالمجمل خوف الظالم من المظلوم، وقلق المحتل من المقاومة، وشعور المعتدي بحتمية الانتقام، وهذه أسباب جوهرية إضافية تجعل إسرائيل غير مطمئنة، رغم ما ذكر سابقاً حول جوارها العربي المنقسم والمنشغل بنفسه، ورغم جيشها القوي تدريباً وتسليحاً، ورغم اصطفاف الغرب والولايات المتحدة إلى جانبها، ظالمة أو مظلومة.

ثم إن وجود إسرائيل في منطقة مختلفة ثقافياً ودينياً وتاريخياً يشعرها بغربة شعورية وعزلة إقليمية وقلق وجودي، وهو الشعور الذي جعل جزءاً من المجتمع الإسرائيلي يتجه يميناً أكثر مع مرور الزمن، وهذه اليمينية الصهيونية هي التي أوصلت الأحزاب القومية والدينية المتطرفة إلى الكنيست الذي أوصلها للتشكيلة الوزارية، الأمر الذي فاقم انقسام المجتمع، وعلى الإثر اتجه الجزء الآخر من هذا المجتمع للبحث عن فرصة للعيش خارج إسرائيل التي ينتظر شعبها دمارها ـ سواء من الداخل أو من الخارج – حسب تعبير يوسي كلاين في هآرتس الإسرائيلية.

*نقلاً عن القدس العربي

مقالات الكاتب