زمن "الملشنة"

يمكن أن يطلق على زمننا هذا تسميات مختلفة، مثل زمن ثورة التكنولوجيا، ثورة التواصل، ثورة المفاهيم، وهناك من يراه زمن ثورة الجياع، ثورة الربيع، أو حتى ثورة المثليين، ثورة الغرائز، وآخرون يرونه زمن التفاهة، وغير تلك من التسميات والأوصاف، لكنه فيما يخص عالمنا العربي ـ أو جزءاً واسعاً منه ومن جواره ـ زمن الميليشيات، زمن القفازات التي تغطي اليد الحقيقية التي تضغط على الزناد، زمن العصابات التي تفعل أي شيء، وتتاجر بكل شيء، من المحروقات إلى الآثار والمخدرات والبشر والأديان والأوطان والقيم والدماء، وتستثمر في كل ما يقع تحت يدها، وكأنها خرجت للتو من تجاويف عصور المجاعات القديمة.

الميليشيات هنا تتوالد بسرعة البكتيريا وتنتشر بسرعة الفيروسات، لأن عملياتها أقل كلفة من تدخل الدول، ونقل عناصرها أيسر من تحريك الجيوش، علاوة على أن قليلاً من المرتزقة، بمخصصات مالية يسيرة وبعض الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، مع بعض تكنولوجيا الطيران المسير والصواريخ وبعض المعلومات الاستخبارية يمكنهم أن يضمنوا لدولة ما سيطرة على دولة أو دول أخرى أو نفوذا جيوسياسياً واسعاً.

ومن أوكرانيا إلى سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى والسودان وغيرها من الدول تعمل ميليشيات متعددة لخدمة أجندة دولية وإقليمية في تلك الدول الهشة التي أوقعتها الخلافات الداخلية والتداخلات الخارجية في قبضة ميليشيات محلية، وأخرى عابرة للحدود والجنسيات.

ومثلما تعمل الميليشيات على توفير الكلفة المادية لصالح مموليها فإنها تعمل كذلك على توفير الفاتورة الأخلاقية، حسبما يتصور أولئك الممولون الذين يمكن أن يلقوا قفازات أيديهم في أقرب سلة مهملات إذا اقتضت ذلك الضرورة.

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض الحقائق حول طبيعة وهدف وسلوك الميليشيا، وفي مقدمة تلك الحقائق أن الميليشيا لا يمكن أن تبني دولة، لأنها ـ أصلاً ـ ليست دولة، ولأن الهدف من تشكيلها هو في الأساس ضرب الدولة وتفكيكها، كما لا ينبغي إغفال حقيقة أن الميليشيا لا يعول عليها لتحقيق أي هدف وطني، لأنها ـ حتى وإن وُجدت لديها خيارات وطنية ـ لا تستطيع الثبات على تلك الخيارات إذا تعارضت مع رغبة الممولين.

بالطبع، من غير الممكن التطرق للميليشيات دون الحديث عن علاقتها بالإرهاب، غير أن السمة الغالبة في هذا الخصوص هي التلاعب بالتوصيفات الإرهابية عند التعاطي مع الميليشيات التي قد تُعد إحداها إرهابية لدى دولة، في وقت تكون فيه تلك الميليشيا قوة لمحاربة الإرهاب في نظر دولة أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للميليشيات الكردية في سوريا التي تصنفها تركيا جماعات إرهابية، فيما تعتمد عليها الولايات المتحدة في «الحرب على الإرهاب». والشأن ذاته يمكن أن ينطبق على بعض فصائل الحشد الشعبي الشيعي في العراق التي تصنفها أمريكا ميليشيات إرهابية وتراها إيران قوى مفيدة في محاربة ما تراه طهران إرهاباً.

وعلى الرغم من أن الرابط المادي هو الأهم بين الروابط المختلفة التي تجمع الدولة الموكّلة بالميليشيا الوكيل فإن روابط أخرى قد تزيد من متانة علاقة المموّل والعميل، كما هو الحال بالنسبة للميليشيات المؤدلجة التي تلتقي مع داعميها في اللون الطائفي أو الأيديولوجي، مثلما نرى لدى ميليشيات إيران في العراق واليمن ولبنان وسوريا.

وإذا كانت بعض الميليشيات قد ارتبطت بالنظام الحاكم وأجندته الداخلية مثل ميليشيا الباسيج الإيرانية وميليشيات الأنظمة الشمولية اليسارية فإننا اليوم نتحدث عن ميليشيات مرتبطة بالخارج، وهي ـ في الداخل ـ تشكل دولة داخل الدولة، ومنظمة موازية للنظام، أو سلطة تحوز الكعكة ولكنها لا تتحمل المسؤولية التي تتحملها الدولة التي تتحكم الميليشيا بمفاصلها الأمنية والاقتصادية والسياسية، ولعل في نموذج حزب الله في لبنان مثالاً واضحاً على تلك الحال، حيث نقف إزاء ميليشيا لبنانية السلطة ولكنها إيرانية الولاء، حسب تأكيد زعيمها، حسن نصر الله.

وفي سياق توصيف واقع الحال ينبغي الإشارة إلى أنه بعد وأثناء مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار الأجنبي راودت الكثير من العرب فكرة «الوحدة العربية» غير أن فكرة بناء «الدولة الوطنية» المستقلة كانت أكثر حضوراً وأقرب للواقع من مشروع الوحدة العربية، بسبب عدد من العوامل التي بدَّدت حلم «الوحدة العربية» لصالح مشروع «الدول الوطنية» غير أننا وبعد عقود من إنجاز التحرر ـ الذي يعد شكلياً في أحيان كثيرة 1 نقف اليوم شبه عاجزين عن الحفاظ على وحدة الدولة الوطنية ذاتها.

وإذا كان مشروع الدولة الوطنية قد أعاق مشروع الوحدة العربية، فإن مشروع الميليشيات المتعددة يعمل اليوم على إعاقة بناء الدولة الوطنية التي أنجزتها حركة التحرر العربي خلال النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن العشرين، وهي ـ أي تلك الميليشيات ـ تُعد اليوم عوامل تفتيت للوحدة الوطنية لبلدان مثلا اليمن وسوريا وليبيا والسودان والعراق ولبنان.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر ذلك النوع من الميليشيات الدولية التي تصنعها وتمولها القوى العظمى، وهي على درجة عالية من التدريب والكفاءة التي قد تصل إلى مستوى تدريب وتأهيل الجيوش النظامية، حيث تأخذ هذه الميليشيات أشكال الشركات الأمنية الخاصة التي يديرها خبراء عسكريون وأمنيون متقاعدون، وتؤدي الكثير من المهام العسكرية، مثل المواجهات والاقتحامات في ميادين المعركة، والمهام الأمنية، مثل حراسة المنشآت الحساسة، كالبنوك وحقول النفط ومناجم الذهب، وتستعين بها الدول الكبرى للقيام بتلك المهام في المناطق التي تشكل نطاق المصالح الاستراتيجية للدول المعنية.

وقد اعتمد الأمريكيون في العراق ـ مثلاً ـ على عناصر الشركة المعروفة «بلاك ووتر» واعتمد الروس في سوريا وغيرها على عناصر «فاغنر» ويبدو أن الصين دخلت هذا الميدان، وإن بشكل أقل تعقيداً، حيث لا تقوم الشركات الأمنية الصينية بأية مهام قتالية ـ في الوقت الحالي على الأقل، ـ قدر ما تعمل في مجالات أمنية مختلفة، لتأمين المصالح التجارية والاستثمارية الصينية في آسيا وأفريقيا، كما أن الشركات الأمنية الصينية تدار بشكل مباشر من طرف الحكومة الصينية، وهي ليست شركات خاصة، كما هي الحال بالنسبة لنظيرتيها الأمريكية والروسية.

في زمن القطبين الدوليين كان المعسكران: الرأسمالي والشيوعي يخوضان حروبهما عن طريق الدول النامية التي تدخل الحرب ضد بعضها برغبة من حلفي الناتو ووارسو، ولتحقيق أهداف الحلفين، أما في زمن القطب الواحد فإن حروب الوكالة انتقلت من أنظمة الدول النامية إلى المجاميع المسلحة التي تتحكم بمصائر تلك الدول، وتهدف إلى تعطيل عملية بناء الدولة و«ملشنة» المجتمعات بجعل مقاليد أمورها في يد «التافهين» باختلاف درجاتهم ومستوياتهم ومجالات عملهم، ضمن ما أطلق عليه الفيلسوف الكندي ألان دونو «نظام التفاهة» الذي أنتج كل هؤلاء التافهين، وكل هذا الغثاء.

*نقلاً عن القدس العربي 

مقالات الكاتب