تهافت الإلحاد

إن الإلحاد أشبه ما يكون «بموضة الأزياء» التي تتبدل حسب المواسم، إنه «إلحاد انفعالي»، لا علاقة له بالمنطق العقلي، قدر ما هو مرتبط بالحالة الشعورية والنفسية للملحدين، إنه «انفعال عاطفي» أكثر من كونه «موقفاً عقلياً»، أو هو بالأحرى «مشكلة سيكولوجية» أكثر من كونه «قضية منطقية»..

يرى أستاذ علوم الحيوان ريتشارد دوكنز أن الدين «وهم جماعي»، وأن فرضية عدم وجود إله هي الاحتمال الأقرب، رغم إقراره باحتمالية وجود هذا الإله، ويذهب دوكنز في مقاربة تعسفية إلى أن التعقيد المذهل الكامن في خلق هذا الكون لا يدل على وجود إله، بل هو تطور نتج عن «انتخاب طبيعي» أعمى غير موجه، ويعمد إلى المثال الكلاسيكي الذي يردده المؤمنون في أن الساعة المعقدة هي من إبداع صانع ساعات مبدع، فيعكسه ويقول بأن تلك الساعة هي من إبداع «صانع ساعات أعمى»، في إشارة إلى أن التعقيد المدهش في الخلق هو نتيجة لتطور طبيعي غير مقصود، رغم اعتراف دوكنز بأن ذلك الإبداع في الكون يمكن أن يكون سبباً كافياً للإيمان بوجود إله، عندما قال إن: «السبب الرئيسي الباقي لكوني دينيّاً (مؤمناً) هو كوني معجباً بتعقيد الحياة وشعوري أنه ينبغي وجود خالق»، قبل أن يعود ليقول «أدركت أن الداروينية كانت تفسيراً أرقى (من الإيمان بإله)». والواقع أن فرضية وجود ساعة معقدة ومدهشة قام بتصنيعها «صانع ساعات أعمى» تظل أقرب إلى التهريج، في حين أن الفكرة التي تقول إن هذه الساعة هي نتيجة علم وخبرة ودراية لدى صانع ساعات بصير وليس أعمى، هذه الفكرة هي الأقرب للمنطق السليم.

ولكي يظهر مدى التعسف في منطق دوكنز يمكن أن تُطرح أسئلة من مثل: هل يمكن لدوكنز أن يعتقد أن أفكاره ونظرياته في «علم الحيوان التطوري» قد جاءت مصادفة ونتيجة لتفكير أعمى؟ هل يمكن التصديق بأن حروف كتبه تقافزت من ذاتها واصطفَّتْ بالصدفة على شكل عبارات منسجمة خرجت للجمهور وتلقفها الملايين دون مؤلف، أو أن جهاز الكمبيوتر الذي يصُفُّ عليه أبحاثه كان نتيجة المصادفة أو التطور الأعمى، وأنه لا يوجد صانع لهذا الجهاز؟

ومع معرفتنا مسبقاً بإجابة دوكنز عن تلك التساؤلات فإن تلك الإجابة تقدح في تماسك منطق الرجل الذي يريد أن يقول إن هذا الكمبيوتر الكوني الكبير الذي لا يتناهى قد جاء نتيجة مصادفات قام بها «صانع ساعات أعمى»، وهي هفوة كبيرة وقع فيها عالِم الحيوان عندما حاول تقمص دور الفيلسوف.

إن مشكلة دوكنز لا تكمن في تشكيكه في وجود «صانع ساعات بصير»، ولكنها تكمن في تخوفه من طرح السؤال المحيِّر بالنسبة له، وهو «من خلق صانع الساعات؟»، وهذا السؤال الافتراضي هو ما حدا بدوكنز – ضمن عوامل أخرى – إلى الإلحاد، حيث أشار إلى أنه إذا صدق بوجود خالق لهذا الكون، فإن أسئلة أخرى ستطرح، من مثل ومن «خلق هذا الخالق؟»، وهو سؤال قديم وغير منطقي، لأننا في الوقت الذي نؤمن فيه بالخالق فإننا لا يمكن أن نتصوره مخلوقاً، لأنه على حد تعبير الفلاسفة هو «العلة الأولى» للخلق، وبالتالي لا معنى لطرح السؤال من الأساس، إذ أن القاعدة المنطقية عن السبب والمسبب تصلح في فضاء المخلوقات، لكن منطق المخلوق لا ينطبق على الخالق، والخالق هو الواحد، ولا شيء قبل الواحد إلا الصفر، ولا قيمة للصفر في حد ذاته، والخالق حسب تعبير القرآن «هو الأول والآخر»، وبالتالي لا يمكن تصور أحد قبله أو بعده، ونحن في الوقت الذي نرى فيه أن هناك من خلق الخالق فإنه ينتهي عن كونه خالقاً، إلى أن نصل إلى «خالق كل شيء»، وهنا لا يمكن تصور شيء قبله قام 

بخلقه.

إن دوكنز عالم حيوان عبقري، لكنه «فيلسوف متهافت» صدَّق أن الأجهزة المعقدة يمكن أن يصنعها مخترع أعمى، كل ذلك في محاولة منه للهروب من فكرة وجود الإله التي هي أقرب للمنطق من فكرة الصدفة الكامنة وراء الجدارية البديعة التي ارتسمت بعد أن غمس رجل أعمى ذيل حمار في طاسة ألوان ثم ضرب به عرض الحائط، لنكتشف أننا حصلنا على تحفة فنية رسمها رجل أعمى، وعن طريق الصدفة!

كم تبدو نظريات الإلحاد بائسة ومتعثرة وهي تحاول الهروب إلى الأمام بمهاجمة الأديان دون النظر إلى أن الملحدين يلتقون مع الأصوليين في كثير من المواصفات، وهذا يفسر حقيقة أن كثيراً من الملحدين أو «اللاأدريين» كانوا – في الأصل – أصوليين دينيين، قبل أن يتحولوا من النقيض إلى النقيض، مع الاحتفاظ بخصائص التطرف في الحالين.

إن الإلحاد هنا أشبه ما يكون «بموضة الأزياء» التي تتبدل حسب المواسم، إنه «إلحاد انفعالي»، لا علاقة له بالمنطق العقلي، قدر ما هو مرتبط بالحالة الشعورية والنفسية للملحدين، إنه «انفعال عاطفي» أكثر من كونه «موقفاً عقلياً»، أو هو بالأحرى «مشكلة سيكولوجية» أكثر من كونه «قضية منطقية»، ولذا نجد دوكنز يعبر أحياناً عن حنين للأجواء الدينية التي عاشها قبل إلحاده، ونجد «ملحدين ظرفاء» يصلون الجمعة ويصومون رمضان ويكفرون بالله!

وبطبيعة الحال فإنه يصعب ربط أسباب ذلك الإلحاد الانفعالي بالدين بشكل مباشر، وإن حاول الملحدون ذلك، لأن الدوافع الحقيقية لهذا الإلحاد ترتبط بطبيعة التدين، لا بحقيقة الدين، وبأزمات كثيرة تسببت السياسات – لا الأديان – في كثير منها، وإن بدا أن الدين هو السبب وراءها، وقد أشار دوكنز في كثير من المواطن إلى أن الأديان تسببت في حروب مدمرة، وهو ما أشار إليه أستاذه الفيلسوف المعروف برتراند راسل في كتابه «لماذا لست مسيحياً»، والواقع أن الكثير من فلاسفة الإلحاد ظهروا أثناء وبعد حروب مدمرة، كالحربين العالميتين اللتين هزتا الكثير من القيم والمفاهيم والمعتقدات، ولا تزال الحروب والاضطرابات السياسية تلقي بظلالها في كل حقبة على توجهات الناس نفسياً وذهنياً، حيث يخرج الملحدون للتعبير عن غضبهم من السياسات فيخطئون في العنوان بتسديد السهام نحو الأديان، لا لشيء – ربما – إلا لأن النيل من الإله يكون أحياناً أسهل من النيل من السلطة، وهذا ربما يلقي بعض الضوء على ظاهرة الغضب الموجه ضد الأديان كلما فجّر الساسة المزيد من الحروب.

إن السياسات والمصالح – لا الأديان – هي السبب وراء الحروب التي شهدها ويشهدها العالم، ذلك أنه يصعب تصور حرب تقوم لأن أطرافها تتزاحم على باب الجنة، في حين يسهل تصور قيام تلك الحرب لأن أطرافها تتزاحم على باب السلطة، كما لا يمكن التصديق بفكرة الحرب التي يكون الدين سببها الحقيقي إلا إذا صدقنا أن الصليبيين احتلوا القدس في سبيل «تطهير مهد المسيح من المسلمين الكفار»، وليس للسيطرة على مقدرات الشرق، أو صدقنا أن الاستعمار الأوروبي الحديث غزا المشرق العربي من أجل إكمال مهمة «الإرساليات التبشيرية المسيحية»، لا لنهب موارده.

إن الأديان في الحقيقة لا تتصارع، ولكن المصالح تتصارع، غير أن المصلحة لا يمكن أن تبدي عورتها للجمهور، ولذا تلجأ للدين لستر تلك العورة أو الأهداف، ومن هنا يقع الكثيرون ضحايا للعبة «خداع بصري» يمارسها «الحُواة السياسيون» ببراعة، لإثارة الجمهور بحركات سحرية يخرجون بها الحية من الجراب والأرنب من تحت القبعة، عن طريق «حِيَل بصرية» ينخدع بها الكثير من غير المؤمنين الذين يرقى بهم الإيمان إلى آفاق فوق العلوم التجريبية والمنطق المعياري، آفاق يصعب حشرها في قنينة اختبار أو إخراجها من قبعة بهلوان.

"لقوم يتفكرون"

مقالات الكاتب