سلامٌ عليك يا روح أمّي
إلى أختي هيلة التي وافاها الأجل قبل يومين..
دمعة أسى وعَبْرة وداع
لقد حانت لحظة الفراق بدون سابق إنذار، كما هي عادة الموت يأتي بغتة فينتزع الأحباب من بيننا دون أن يترك لنا ولهم فرصة التوديع، وقول الكلمة الأخيرة وإلقاء النظرة الأخيرة.
بعد أسبوع من سفرك إلى القاهرة لتلقي العلاج جاء الخبر المفاجئ الذي فجّر في القلب بركان الأسى، وأشعل في الروح جذوة الحزن على فراق الأخت الطيبة الحنون، وما أقسى لحظة وصول النعي والنبأ الصادم: هيلة ماتت، لم أصدق ما سمعت حينها، فأنا قبل ساعات كنت على تواصل مع ابنها المرافق لها، وقد طمأنني عنها، وقال إنها تحسنت وهي تبلغنا السلام، عاودت الاتصال به لكي يساعدني في نفي الخبر الذي بدأ ينتشر، لكن جاءت إجابته قصيرة تختصر كل شيء، قال بصوت متقطع: (حصلت مضاعفات يا خال.. الله يرحمها).
خنقتني العبرة وأنا اتمتم: الله يرحمها، الله يرحمك يا أختي.. في تلك اللحظة شعرت بالخذلان، خذلني الناقلون والسامعون، المتحدثون والصامتون، خذلني المسافرون والمقيمون والأطباء والمرضى، إنهم يقولون انك غادرتي الحياة، هل خذلوني حقاً؟ أم خذلوك يا أختي؟ أو أننا نحن جميعاً خذلناك يا غالية؟ خذلناك حين حملناك من المتاعب فوق طاقتك وقدرتك على الاحتمال، خذلناك يا روحي عندما ظننا أن جسدك الذي ينهشه المرض سيخرج منتصراً مثل كل مرة، مع أن الوجع كان قد أخذ منك الكثير.
خلال لحظات استدعت الذاكرة بعض مخزونها عنك منذ طفولتي حتى الأسبوع الأخير قبل رحلتك الأخيرة التي لم تكتمل، حين ذهبنا (خالتي أم يحصب وأنا) معك إلى المطار فجراً لتوديعك، لقد كنت متعبة لكنك حاولت تبديد مخاوفنا قائلة: سأعود قريباً وأنا بخير لا تقلقوا.. فعلاً لقد عدتي سريعاً، وكنا هناك ننتظر جثمانك المسجى، الذي قطع الشك باليقين.
لقد عادت بي الذاكرة إلى كثير من المواقف التي جمعتنا بالراحلة العزيزة التي ظلت طوال حياتها مثالاً للتضحية والتفاني وخدمة الآخرين، لقد جسدت قيمة العطاء بدون مقابل، وكانت تقدم العون لذوي الحاجة مهما كانت ظروفها، حتى وإن كانت هي بأمس الحاجة للمساعدة.
التحقَتْ مبكراً بالتعليم أثناء إقامتها في عدن حين لم يكن التعليم النظامي موجوداً في المنطقة الريفية التي تنتمي إليها في مديرية دمت، في سبعينيات القرن الماضي، ما جعلها تتطوع لتعليم الصغار أبجديات القراءة والكتابة، واستمرت في ذلك حتى بعد زواجها الذي بدأت معه مرحلة جديدة من الكفاح والبذل والصبر والتحمل.
بالنسبة لي وبقية إخوتي كانت لنا الأخت والصديقة والنموذج والملاذ الآمن، كما أنها صارت لنا الأم منذ وفاة أمنا قبل نحو 35 سنة، تزورنا وتتفقد أحوالنا وتسأل عنا رغم مشاغلها الكثيرة والتزاماتها التي لا تنتهي، وما أجمل اللحظات التي كنا نقضيها معاً، لم تكن مجرد أخت أو قريبة فهي أستاذة تطوعت لتدريس أبناء القرية، وكانت معروفة للجميع كونها الفتاة الوحيدة في المنطقة التي حصلت على حظ وافر من التعليم والتهذيب والوعي الذي انعكس في سلوكها وتعاملها مع الآخرين، لقد كانت محل تقدير الناس واحترامهم، وكان ذلك مبعث فخر واعتزاز لي.
قبل أكثر من عشرين سنة تعرض زوجها لحادث أقعده عن العمل والقيام بواجباته فصارت هي الأم والأب، تتولى رعاية الأبناء وتعليمهم وتوجيههم والإشراف عليهم، حتى وصلوا إلى مرحلة الشباب والزواج وأصبح لكل منهم بيته وأسرته. ومع ذلك فإنها لم تتخل عن حضورها الاجتماعي ودورها الفاعل بين أقاربها وصديقاتها وجيرانها، تدل على الخير وتحرص على إنهاء المشاكل وحلها والمشاركة في الأفراح والأحزان، حتى باتت تعرف بكونها (أخت الجميع).
اليوم وأنا أرثيك يا أختي، أتذكر حضورك الجميل بيننا، صوتك الهادئ وابتسامتك الرقيقة رغم الوجع الذي بدأ ينال من جسدك، إصرارك على تحقيق النجاح وعزيمتك التي لا تقبل الهزيمة، كيف لا وأنت قد هزمت الظروف من حولك وتمكنت من إثبات ذاتك والقيام بدورك رغم المعوقات والعقبات وما أكثرها.
أقف الآن لأودعك باكياً حزيناً، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، وأسأله تعالى أن يتغمدك بواسع رحمته ويسكنك فسيح جناته، والسلام عليك يا بنت أمي.. وبقيّة أمي ويا روح أمي.