حوار مفخخ برعاية الحرس والفرقة
القوى السياسية في اليمن، تشتري وهم الاستقرار الهش مقابل مستقبل غامض مفخخ باحتمالات العودة إلى نقطة الصفر. بعد قرابة العام مما أسمته المبادرة الخليجية: النقل السلمي للسلطة، ما يزال الرئيس هادي يدير شؤون البلاد من منزله، ومؤخرا بات المنزل المكان لمفضل لرئيس الحكومة باسندوة لمزاولة عمله، ومن غير المستبعد أن نسمع لاحقا عن لجوء الوزراء لذات الخطوة.
لا علاقة للمسألة بالطبع بالمزاج الشخصي، فالرئيس ورئيس الحكومة يفعلان ذلك مضطرَين، لأن الوضع الأمني في البلاد منفلت. بصورة أوضح أجهزة الأمن والجيش المعنية بتامين البلاد والمواطنين ليست تحت سيطرة الرئيس والحكومة حتى الآن، على الأقل هذا ما قاله الرئيس هادي للمسؤولين الغربيين خلال جولته الأخيرة على ما ذكرت الكثير من وسائل الإعلام.
ما يجعل الأمر أكثر سوءا أن جمال بن عمر، عاد أمس السبت إلى صنعاء، وهمه الوحيد متابعة التحضيرات لمؤتمر الحوار الوطني. هو قال بصورة لا لبس فيها، إن نجاح العملية الانتقالية مرهون بنجاح مؤتمر الحوار الوطني، لكنه لم يقل كيف سينجح الحوار في أجواء منفلتة، وهناك أطراف متضررة من فكرة نقل السلطة، وبيدها مختلف أنواع الأسلحة وتسيطر على الجيش والأمن؟
الرئيس هادي بدوره عند لقائه سفراء الدول العشر الراعية للمبادرة السبت قال إن الحوار الوطني سيمضي بصورة متزامنة مع عملية هيكلة الجيش والأمن. لكن من الواضح أن الهيكلة لن تستبعد احمد علي قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة واللواء علي محسن قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية، وهو ما تأكد ضمنيا في تصريحات للجنة العسكرية قبل يوم. تحدثت اللجنة عن قرارات مكملة سيتخذها الرئيس بخصوص دمج بعض ألوية الحرس والفرقة في المناطق العسكرية، وتطبيق لائحة للتدوير الوظيفي مطلع العام المقبل.
من شأن أي قرارات بهذا الاتجاه يصدرها الرئيس هادي بالتأكيد، إضعاف مركز احمد علي وعلي محسن، لكنها من جانب آخر ستبقي على أهم سبب لاستمرار انقسام الجيش وحيازة الطرفين على كل إمكانيات تهديد التهدئة الهشة، والاهم من ذلك كله أن بقاءهما سيجعل الذهاب إلى الحوار، خصوصا لدى الأطراف الجنوبية، أمرا صعبا، وربما سيكون سببا لدفع الأوضاع هناك إلى التفجر.
تنسى الأطراف السياسية أن بقاء هذين الرجلين مع استمرار، الجمود في ملف المبعدين الجنوبيين من الجيش والأجهزة الأمنية، سيدفع على الأرجح أكثر الأطراف الجنوبية تحمسا للحوار إلى رفضه كخيار وحيد في بيئة تشتد فيها المضاربة بالشعارات المنادية بالانفصال.
بقاء احمد علي بما يمثله من امتداد لسلطة علي عبدالله صالح، بالإضافة إلى اللواء علي محسن لا يعني سوى أن على الجنوبيين المشاركة في حوار يبدو قسريا تحت سيطرة القوة ذاتها التي التهمت الجنوب ونهبته في حرب 1994م.
تعيش البلاد وضع امني منفلت، وهناك انتشار وتمدد لجماعات الحوثي المسلحة في الشمال، وتزايد النزوع نحو الخيارات العنيفة لدى بعض فصائل الحراك في الجنوب، ودخول لاعب إقليمي جديد على الخط مثل إيران، واستمرار تهديدات القاعدة، بينما في المقابل هناك شلل شبه تام للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، إذ ما زال اغلبها يعمل وفقا لرغبات صالح الأب والابن واللواء العجوز ولحمايتهم أيضا. في ظل هكذا وضع لماذا علينا الذهاب لحوار يبدو انه سيمنى سلفا بالفشل؟
لو تركت المسألة لرعاة المبادرة، وجمال بن عمر، فهذا يعني أن القوى السياسية سلمت رقبة البلد بصورة نهائية للخارج.
إذا كانت مصلحة هذا الخارج تكمن في منع انزلاق اليمن إلى حرب وفقا للمعزوفة المملة إياها، فهذا لا يعني انه سيكون حريصا في المقابل على أن تخرج اليمن تماما من حالتها الراهنة. الوضع الحالي في اليمن بالنسبة لحسابات الخارج، مثاليا، ومن مصلحته أن تستمر المراوحة داخل ذات الحالة (حالة اللا سلم واللا حرب ). مناطق النزاعات تفتح شهية القوى الإقليمية والدولية وتمنحها مزايا كثيرة، وفي أسوأ الأحوال، تكتسب صفة اللاعب النافذ في هذا البلد أو ذاك، وهذا بالضبط ما توفره اللعبة السياسية في اليمن لجميع الأطراف الخارجية.
من مصلحة البعض إن يستمر اليمن كبلد هش تمزقه الصراعات، والعنف، وساحة «للفوضى المسيطر عليها» امتدادا لحقبة السبعينيات، حيث تتوزع القوة على مراكز نفوذ تبقي البلد، رهن الوصاية وتلعب الأطراف الخارجية دور المرجع لحل النزاعات مع صرف بعض النقود والأموال للمقاولين والسماسرة!.
باستثناء مرحلة الشهيد الحمدي القصيرة، المسكونة بحلم ابن البلد الذي حاول التأسيس لمشروع دولة ذات نزوع وطني، استمرت ذات الحقبة مع وثوب علي عبدالله صالح إلى الحكم وتسليم البلد كليا إلى الخارج.
ليس احمد علي وعلي محسن، إلا بعض التجلي لحقبة صالح نفسه المهينة لليمنيين، وبقاءهما يعني أن اليمن سيعود مجددا إلى حقبة السبعينيات حيث تتنازعه مراكز نفوذ متعددة تبقيه في حالة شلل تام وتحت السيطرة، وهو الدور الذي يبدو محببا للرجلين، وجاهزَين تماما لأدائه، مقابل السماح ببناء مركز نفوذ ليس إلا، لمصلحة سلطة الرئيس هادي!
حتى بعض الأصوات المرتفعة حيال هذه المشكلة، كالحزب الاشتراكي وبعض القوى الجنوبية مثلا، لا تضع النقاط على الحروف، فهي تستعير لغة مواربة، وتتحدث عن ضرورة «إنهاء الانقسام وتوحيد الجيش تحت قيادة واحدة» قبل الحوار. هو شرط مهم وضروري بالتأكيد، لكن ذلك يظهر الأمر كما لو كان أفراد هذه المؤسسات قرروا في لحظة ما أن يصبحوا فريقين برغبتهم!
مثل هذا الحديث يبدو مضحكا، فالانقسام لم يحدث إلا لأن الولاء في الضفتين بني على أساس شخصي أو مناطقي أو عشائري، وكرس كل إمكانات هذه القطاعات لهذه الغاية. ففي الحرس، والأجهزة الأخرى لا شيء يعلو فوق صوت «القائد» احمد وعائلته، وفي الفرقة، القول الفصل، للجنرال المزمن في الجيش علي محسن.
إن أهم سبب لاستمرار الانقسام ويصيب الجيش والأجهزة الأمنية بالشلل هو بقاء احمد ويحي وعلي محسن، ولكي يزول هذا الوضع، يجب أن يعزل ثلاثتهم. إذا مضى منطق المغالطة على نحو نقيض، فلا داعي للحديث عن إنهاء الانقسام بتلك الطريقة، فاحمد علي وعلي محسن يزعمان كل الوقت أن ولاءهما للرئيس هادي وتحت قيادته الموحدة.
ثمة منطق غريب يسوقه البعض لتبرير بقاء محسن واحمد، فهناك من يرى أن أي قرار من شانه إبعاد الطرفين عن الجيش أن يفجر الوضع عسكريا، وان الطريقة التي ينتهجها الرئيس هادي، من خلال التفكيك البطيء، هي الصائبة. قد يكون ذلك صحيحا بعض الشيء، لكن هذه الطريقة من جانب آخر، تحتاج إلى الكثير من الوقت في حين تتعقد الأوضاع في البلاد بصورة خطيرة، في الجنوب والشمال، والطرفان (صالح ومحسن) يساعدان في تفاقمها، وفي الوقت نفسه فإن طريقة هادي لن تمنع بصورة نهائية تفجير الوضع لاحقا!
من دون تواطؤ الخارج، فإن انفجار الوضع من المستبعد أن يحدث الآن في حال صدور أي قرارات بهذا الخصوص، مع ذلك فإن الأسباب نفسها التي ستدفعنا للتعامل مع «قوة احمد وعلي محسن» كأمر واقع، ستستمر حتى مع تسلل الضعف إلى مفاصل القوة التي يمتلكانها. فإذا كان الطرفان وتحديدا احمد سيعبّر عن غضبه بتفجير الوضع الآن فسيفعل ذات الأمر غدا حتى لو تبقى بحوزته 5 ألوية عسكرية فقط!
غير المال المستمر في نهبه، علينا أن لا ننسى التحالفات التي نسجها صالح خلال مرحلة التهدئة، وحجم الأسلحة التي استولى عليها من مخازن الجيش لدرجة أصبحت معها سنحان ثكنة ضخمة للعتاد العسكري بمختلف أنواعه!
تتذكرون جيدا تصريحات وزير الدفاع الأخيرة حين تحدث عن «فقدان» 90 % من عتاد اللواء الأول حرس جمهوري بعد قرار تحويله إلى قوات الحماية الرئاسية وفصله عن الحرس.
هذه الكمية المهولة من عتاد لواء عسكري كانت مهمته حماية الرئاسة وجزءا كبيرا من العاصمة نهبه العميد، وتعاملت كل أطراف التسوية والرعاة ببرود حيال الأمر كما لو كانت ألعابا نارية منتهية الصلاحية. أخشى أن يكون بن عمر قد فهم ذلك باعتباره جزءا من الخطوات التمهيدية للحوار!
ما هو اخطر من ذلك كله، إن َمرْ: تسليم اليمنيين، بكل عنفوان ثورتهم الشعبية وتضحياتها، بأن هناك من له الحق في امتلاك قطاعات من الجيش والأمن، ليستمر البلد ألعوبة بيد أطراف تقتل وتمارس اللصوصية بكل أشكالها، وتحصل أخيرا على المكافأة، وذلك لا ريب كفيل بإعادتنا إلى نقطة البداية مع المزيد من التشظي.
لقد وضع اليمنيون كل بيضهم في سلة المبادرة، وهذه خطيئة كبرى، وهناك من يعتقد بسذاجة أن الخارج لن يخذلنا، وعلينا فقط أن ننتظر لمساته الحانية لإنهاء عملية نقل السلطة. طريقة التفكير هذه تنم عن تسطيح فضيع يهيمن على رأس الطبقة السياسية في البلاد، فهؤلاء يتجاهلون بقصد أبسط قواعد لعبة الأمم، حيث قوى العالم المهيمنة تدير الأزمات والصراعات ولا تحلها. هذا لا يعني أن علينا الدخول مع القوى الإقليمية والدولية حاليا في خصومات فارغة من خلال بعض الشعارات كما يفعل البعض، لكن في المقابل لماذا علينا أن نثق بهم؟
الرعاة وجمال بن عمر يريدون تنفيذاً آليا للمبادرة، في بعض النقاط فقط، كما هو الأمر بخصوص الحوار، متجاهلين أهم سبب يمنع كل الأطراف من الذهاب إليه، وهو اختطاف الجيش واقتسامه بين طرفين يشرعنان بقاءهما وكلٌ يستمد سبب وجوده من الآخر. هذا يجري رغم توفر كل اسباب إقالتهما وإرسالهما للمحاكمة، كالاستيلاء على أموال الجيش وصفقات السلاح، كما أن وجودهما على رأس هذه القوات مخالف للدستور وقانون الخدمة العسكرية.
ليست هذه أمور مهمة على ما يبدو بالنسبة للرعاة وبن عمر، فهم يثابرون بصورة غريبة لكي يذهب اليمنيون إلى حوار لن يكتب له النجاح كما يبدو!
هم أيضا يريدون أن نتحاور حول أشياء لا تقبل الحوار أصلا: مثل حيادية الجيش وهيكلته! وكأن تدافع اليمنيين إلى صناديق الاقتراع لدعم الرئيس هادي في فبراير الماضي ليس دليلا كافيا على رغبتهم في التخلص من حقبة صالح بكل عفونتها، غير أن المشهد انتهى بعد كل تلك التضحيات ليبدو الأمر كمن سيطر على «غمد الجنبية» أو «الخفاق» بالتعبير اليمني، وترك القاتل يلهو «بالنصلة» فوق ضحاياه!
صالح وتاليا نجله احمد واللواء محسن اضعف من أن يلعبا بهذه الطريقة من دون ضوء اخضر خارجي، والجميع اعجز من أن يقف في وجه قوى إقليمية ودولية لديها كل الأوراق اللازمة لردعهم – لو كانت صادقة - عن الاستمرار في لعبة الإنهاك والتدمير هذه . لو خيرت واشنطن مثلا، صالح ونجله بين مصادرة الأموال المودعة في حسابات تعرفها جيدا وتعريضهما للملاحقة والعقاب، أوترك البلاد للتمتع بتلك الأموال فلن يستمرا في البلاد لدقيقة واحدة.غير أننا سنكون سذجا إذا اعتقدنا أن القوى الدولية تعمل كجمعية خيرية، ثم لماذا نعتقد أنها قد تفعل ذلك وهي لم تجد ما يدفعها لتغيير موقفها من القصة برمتها؟
بوجود قوى سياسية واجتماعية يقظة ونزيهة، يصبح الخارج لاعبا ثانويا، لكن القوى السياسية وقعت في فخ تسوية بدأت بمشروع خروج آمن لعلي صالح من السلطة، وانتهت إلى محاولة فرض شراكة آمنة لعائلة صالح في السلطة. وكان الجيش، بدعم من واشنطن وسهولة التلاعب بقيادات سياسية كهلة، هو الوسيلة التي مكنت صالح من ابتزاز اليمنيين جميعا. بعد ترحيل الأمر أكثر من مرة منذ توقيع المبادرة، إذا أذعنت الأطراف الداخلية في الحالة التي نحن بصددها مجددا وقبلت بقاء أهم اسباب توتر الوضع في البلاد، فهذا يعني أن البلد ذاهب إلى الانفجارات الكبيرة.
يدرك الرئيس هادي حجم التحديات التي تواجه اليمن، ولقد قال مرارا إن فشل مؤتمر الحوار سيعني الذهاب إلى الحرب. ليته يفعل أكثر من الحديث عن المخاطر، أن يذهب ابعد من ذلك بتقرير ما يبدو للبعض انه ركوب مغامرة، لأن من شأن عزل احمد علي وعلي محسن أن يمهد البلاد للانتقال فعلا إلى مرحلة تالية ومختلفة.
ربما لا تلقى هذه الخطوة التأييد من الخارج، وهي محفوفة ببعض المخاطر، ويبدو أن الرئيس هادي قد حاول فعل شيء في هذا الاتجاه أثناء جولته الخارجية الأخيرة فلم يجد من يسنده سيما في واشنطن والرياض. لكن إبعاد الطرفين سيكون بمثابة ميلاد جديد للبلد، ولن يمهد للحوار والهيكلة فحسب، بل سيقود إلى محاربة الفساد الذي ترعاه مظلة احمد ومن خلفه ابيه وعلي محسن، ولن نحتاج بعدها إلى بهلوانات اللجنة التنظيمية «للثورة الشبابية» للمطالبة بخروج صالح من البلاد وإسقاط الحصانة، لأن ذلك سيحدث من تلقاء نفسه.
عليه أن يفعلها، فقد خرج الناس لانتخابه كمخلّص رغم إدراكهم أنه ما من منافس يقتضي ذلك الاحتشاد، أما الخارج فسيضطر مكرها للتعامل مع الواقع الجديد وإن على مضض. سيكون هادي وقتها قد وضع اليمنيين في قلب تحول تاريخي سيرتبط باسمه إلى الأبد.