هُنا عدن.. هُنا هَنت!

وقف على الماء.. ثم وجّه رسالته ومضى.. كأن عدن متنفس «القول الفصل»، وكأن «هَنت» يهمس في آذان القوم «هنا عدن.. هنا هَنت».. الوقوف على بحر المدينة يمنحك شيئاً من العفوية والأريحية.. هي تحت السماء «عدن الملهمة»..! 

 يا قوم أُخرجا من الحديدة.. أنتما كلاكما..!

أنا هنا من الميناء الذي يعبق تاريخه بأعواد البخور والند.. أوقفوا البارود.. نمنحكم شذىً من عطر المدينة.. «قد بلّغت».. فاشهد يا بحر التواهي.. ويا لحن «مزهري الحزين».. ويا «شماريخ شمسان».. انتهت الرسالة!

عندما قال «أنا أول وزير خارجية غربي يزور اليمن منذ أربع سنين».. مزج الرجل بين وقفته على الشطآن وبين طيف مرّ عليه في لحظة تجلّي.. يوم كانت عدن بأمنٍ واحد.. وشرطة واحدة.. وربما نازعه حنين إلى التواهي عاصمة المستعمرة في القرن التاسع عشر.

وبعد.. وقفتُ أمام بائع اللُبان بجوار مسجد النور بمدينة الشيخ عثمان.. ليس لُبان «أبو حربة» ولا «أبو أربع».. تاك شوينجم!

قال: «أجود اللُبان يأتينا من الصومال».. كان البائع يرص فراجم اللُبان أمامه كأنه يرسم قلعة صيرة..

بدت الصورة أمامي أثيرة تفوح بعبق التاريخ.. هو مشهد يبدو للناظر بسيطاً.. لكن أرقى الأذواق في «البساطة».. فالصورة لها أصل في تراث المدينة.. فقد كان الصومال قديماً يأتون بتجارتهم من الكباش واللُبان والأصباغ إلى عدن، حتى سُمي جزء من المعلا في نهاية القرن التاسع عشر بـ «صومالي بورا»، أو مدينة الصومال، كما جاء في «الأعمال الكاملة» لعبد الله محيرز.

كذا كانت عدن قِبلة التُجّار من كل الأقطار، والسوق العربي الذي لا يُضاهى، وليس مكاناً للعبث بالسكينة واللعب بالنار!

إن وزير خارجية بريطانيا أعطى للمدينة «رمزية الزيارة» وذكرى للتاريخ أنه بلغ كلا الفريقين (الحوثي والشرعية) أنْ «أُخرجا من الحديدة»، وأخالُهُ بدأ يُرخي حبال صوته معرّجاً على عدن، كأنما يقول «وأنا أيضاً لا أُحب (ملشنة) سندريلا البحر».. كما خِلتهُ شَرَعَ يبوح بصوت الشَجَن: «ليست عدن بحاجة لحملَة بنادق.. هي عبر التاريخ درعها «الجبل» وخوذتها «القلعة» ومخازن ذخيرتها حصونها المنيعة»!

ونزيد في القول «عدن لمن يعشقها».. هذه المدينة تحتاج إلى إعادة إعمار ما خربته يد الحوثي الأثيمة، وترميم الأبنية التي اخترقت جدرانها قذائف الغزو الهمجي.. عدن تتطلع إلى مبادرات شبابية تضفي عليها ألَقاً وبهاءً كإزالة ما علق في شوارعها وأزقتها من مخلفات بناء، وأكوام قمامة، لإبراز فضيلة النظافة كسلوك مدني حضاري.

هذا «البلاستيك» بصنفيه «أكياس وعُلَب» صار يغطي على كل شيء.. وزاد «الموالعة» في انتشارها بللاً على الطين.. ترى الواحد منهم بعد ظهر كل يوم يتأبط كيس القات منتشياً كأن مركبة فضائية في انتظاره ستصعد به إلى السماء.. هو أيضا لا ينسى قارورتي الماء والبيبسي!

وأينما تمر في ركن أو شاطئ أو شارع أو جولة ترى مخلفات «الساعة السليمانية».. حتى أرهقوا عامل النظافة وأحرقوا أعصابه!

هل هذه المدينة التي نحلم بها؟!.. كيف نقول «هُنا عدن».. وهي ليست هُنا.

لو قُدر للوزير «هَنت» أن يمر على شوارعها.. لما قال «هُنا عدن».. لكن سلب حسَّه جمال مينائها العظيم.. فبلّغ رسالته ومضى!!

*نقلا عن صحيفة الأيام

مقالات الكاتب