تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة !!
ذات يوم قال غرامشي أنه متشائم من الفكر ومتقائل بالإرادة, التشاؤم والتفاؤل حالة إنسانية خالصة ويؤثران على الإرادة, الإرادة موطن التقدم وأساس للعمل الفاعل ذي المعنى, والتشاؤم والتفاؤل حالة نفسية لكل منها فكرها الخاص.
وما من امرئ لم يخالجه كلا الحالتين, لكن يختلف البشر بالتوزع بين الحالتين , هناك ناس متفائلون على الأغلب, بينما لحظات التشاؤم لحظات عابرة في حياتهم, وهناك ناس حالتهم معكوسة متشائمون في أغلب أوقاتهم, التشاؤم عنوان حياتهم, وقلما يتفائلون, بيد أنه من المؤكد أن الحالتين تتعلقان بالمستوى المعرفي ونوعية المعرفة, كما يمكن إشاعتهما واستزراعهما عبر فكر وفلسفة تؤدي أغراض ووظائف.
عندما لا يحضى النشاط الفكري بالاهتمام الكافي في المجتمع او عندما يتحول النشاط الفكري إلى ضرب من اللامعنى, ويتصدى لهذه المهمة مهرجون ودهماء وعيال السوق , وتجد أوطأ الناس والفارغون يقررون حياة المجتمع وناسه, حالة كهذه تشيع مناخات تشاؤم وتشل حركة مجتمع عبر شل إرادة نخبه التي يعول عليها إحداث تحول وتغيّر اجتماعي, فالمجتمع المتفائل بإراداته أو المتشائم بها يعبر عن جوهر فلسفة أرثر شبينهاور العالم فكرة وإرادة, الفكرة سواءً أكانت متفائلة أو متشائمة تترك أثرها على الإرادات سلباً أو إيجاباً. أو التي تشيع, أي أن الإرادة من دون قيادة الفكرة, تغدو ضرباً من تربيع الدائرة.
وأمام هذه الحقيقة وقف المفكر الراحل أدوارد سعيد في أحد حوارته محللا هذه الفكرة الغرامشية, تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة, حيث قال لا يكفي أن تعرف أن ذلك ولمجرد القول " الأمور سيئة, ولكن لا يهم ؛ سأتقدم " بل عليك أن تعرف لماذا الأمور سيئة؟ ولماذا الفكر متشائم حتى تستطيع أن تتقدم؟. أي كما قالت حكمة العرب في موروثهم" إذا عرف السبب بطل العجب".
وعليه , فما أحوجنا إلى دراسة نقدية للواقع , كي نعرف أسباب هذا المقدار المضاعف من التشاؤم الذي نرزح تحت ظله منذُ ما يقرب القرنين ـ منذُ أن وعى العرب حقيقة تخلفهم ـ , فكلما حاولنا أن نضع أيدينا على مكامن تخلفنا, ما نلبث أن نجد أنفسنا أسيري هذا التشاؤم وعدم الثقة في قدراتنا, ونجد أنفسنا أسرى عدم الحركة لا بل التخلف الذي يزداد وطأته علينا ونجد أنفسنا مخنوقين به ..
إن واحدة من أسباب عدم الحركة والقصور الذاتي الذي نرزح تحت كلكله, يمكن أن نجد تفسيره في أنظمة الاستبداد التي وعت أهمية إشاعة ثقافة التذمر والشعور بقلة الحيلة, بوصفها أداة فعالة للسيطرة على الإرادات وإثباط همتها, وهذه المناخات يجري صناعتها من خلال إدارة شئون الناس بالأزمات الدائمة , ولذا فأن هذه الأنظمة تشجع على شيوع كل ما من شأنه إشاعة مثل هذه المناخات , من صحافة "الشكاء والبكاء" إلى كتابة صحفيي " ما فيش فائدة يا صفية " هذا النوع من الكتابات يلعب دور في شل الإرادات, وبمنح النظم الاستبدادية والشمولية وقتاً إضافياً بدل ضائع.
وبقدر ما كان للتقدم العلمي والتقني دوره في توسيع نطاق المعرفة وجعلتها ذات فاعلية تدفع الحياة إلى الأمام, فإنه بقدر ما أمدت الأنظمة الاستبدادية والشمولية بوسائل تساعدها على كبح جماح هذا التقدم وتأخيره وإطالة زمن بقاءها , فكل الوسائل العصرية من ثورة معلومات من الراديو والسينما والتلفزيون وحتى والنت الذي صار فضاءً معرفياً مفتوحاً, هذه كلها أدوات ذات حدين, يمكنها أن تكون أدوات ووسائل تحكم إما أن تبث روح التفاؤل في الإرادات وتؤسس لأنظمة حرة, كما يمكنها أن تسلب الإرادات في ظل الأنظمة الشمولية, وكما لاحظ فيلسوف بريطانيا العظيم برانتراند راسل(1872ـ1970م) في كتابه اثر العلم في المجتمع(1958م), أن للعلم أثار سلبية ؛ فلقد وفركثيراً من الوسائل والأدوات التي ساعدت الأنظمة الشمولية والاستبدادية على تأبيد بقاءها, حتى باتت كل وسائل التغير فيها منغلقة ومستحيلة؛ بما فيها الثورة, إذ تغدو الثورة ـ حسب رأي الفيلسوف راسل ـ في أنظمة كهذه كـ" ثورة الخراف على جزاريها", ومع ذلك لم يغلق راسل باب الأمل في التغير, لأن التغير مبدأ حتمي, ولذا فإن التغير سيطال هذه الأنظمة, مهما طال بها الزمن, ككل أمر غير طبيعي وغير شرعي في هذا الكون , فزوالها مسألة وقت , لقد تنبأ راسل بتفكك هذه الأنظمة من داخلها, وذلك بفعل صراع المصالح غير المشروعة وغير السوية بين نخبها, وهذا التنبؤ الفلسفي, أكدته وقائع الأحداث السياسية التي لحقت بكل الأنظمة الشمولية الذي بدأ بسقوط جدار برلين, حيث سقطت كأحجار الدومينو , وأكدنه أيضاً سقوط أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية حالياً.
سامي عـــطا
استاذ فلسفة العلوم مناهج البحث
قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عدن