نَصّ الدين أم عقل المتدين؟
دعونا نبدأ بتقرير فرضية أن الإسلام اليوم يتأثر بالمسلمين، من دون أن يؤثر- هو- فيهم. المسلمون- اليوم – ينتجون صورة مشوشة عن الأصل، ثم يذهبون لإقناع أنفسهم، وإقناع العالم بأن تلك الصورة هي الأصل. المسلمون اليوم يرون الإسلام على صورتهم هم، فيما هم في الحقيقة يجافون صورة الإسلام في تجلياتها النصية والسياقية.
ولأن المسلمين اليوم يمارسون تأويلاتهم المرتبطة بالواقع المأزوم للإسلام، ولأنهم ذهبوا يُسوِّقون أن تلك التأويلات هي الإسلام، لذا عجزوا عن الإجابة على التساؤلات الإشكالية حول: كيف استطاع المسلمون الأوائل النهوض بالإسلام فيما أصبح خصوم الإسلام اليوم يقولون إنه هو سبب تخلفهم؟!
الجواب واضح، ولا يحتاج إلى كثير عناء: وهو أن سبب نهوض مجموعة بشرية في زمن ومكان ما لا يمكن أن يكون سبب نكسة هذه المجموعة في زمن ومكان مختلفين، إلا إذا كان هناك خطأ ما في عمليات التأويل، وخلط في المنتجة، وخلل في إخراج الصورة التي يفترض أن تحاكي الأصل الأول.
هذا بالضبط ما حدث: تصور المسلمون الإسلام على هيئتهم المأزومة، ثم ذهبوا يريدون منه أن يجترح معجزة خروج يونس من بطن الحوت، أو أن يشق البحر لموسى، أو أن يعيد محمداً حياً لهم، ليحل كل إشكالاتهم!
إن فهم المسلمين للإسلام- اليوم – محكوم بظرف المسلمين المأزوم، وواقعهم المهزوم، نظرة المسلمين للحياة، مفاهيمهم للعلاقات البينية والدولية، واقع المسلمين الجيوسياسي والسيكو- ذهني، واقعهم الاقتصادي والثقافي، ووضعهم إزاء منظومة العلاقات والمحددات التكنولوجية والتقدم العلمي، كل ذلك يشكل حدود تأويلهم لمنظومة النصوص والمواقف والأحداث والعقائد والسياقات التي تشكل مضامين الإسلام.
وبعبارة أخرى يمكن القول: إن الأثر الأكبر هو-اليوم- للمسلمين على الإسلام، وليس للإسلام على المسلمين، إنه (أي الأثر) يسير في اتجاه واحد، في اتجاه تشويش مفاهيم الإسلام بالمعتقدات الشعبوية للمسلمين، وهذا يعني جناية كبيرة يجترحها المسلمون على صورة الإسلام، وعلى مضامينه، بتصدير «معتقداتهم الشعبوية» على أساس أنها «عقائد الإسلام»، وتقديم «تقاليدهم العرفية» على اعتبار أنها «شرائع الدين»، الأمر الذي زاد من التباس الفكرة، واحتباس الأفق.
وإذا ما سلمنا بنظرية التأثر والتأثير المتبادل بين الإسلام والمسلمين فيمكننا القول باطمئنان إن المسلمين خلال قرون التراجع الفكري أنتجوا تأويلاً مشوهاً للإسلام، (وهذا يمثل تأثير المسلمين السلبي على الإسلام)، ثم أثَّرَ هذا التأويلُ المشوهُ على حياتهم العاطفية والفكرية، وصبغ تلك الحياة بصبغته الملتبسة. وهذا يؤكد مرة أخرى أن عمليات التأثر والتأثير- بين الدين والمتدين، أو بين النص والمتلقي- تسير في طريق من اتجاه واحد، وهو الطريق الذي يَبرُز فيه أثرُ المسلمين السلبي على الإسلام، دون أن يتجلى الأثر الإيجابي للإسلام على المسلمين.
معروف أن المجاميع البشرية تقارب ما لديها من تراث بعين واقعها المعيشي، وأن واقع تلك المجاميع ينعكس على فهمها لتاريخها، وأنها تنظر لماضيها غالباً بعين حاضرها، ثم تعيد إنتاج هذا التراث وهذا الماضي بما يتوافق مع واقعها الثقافي ومعطياتها النفسية والذهنية، وهذا شيء طبيعي، ولأن واقع المسلمين اليوم يمثل «ذروة القاع»، فإن نسختهم التي يحاولون إنتاجها من الإسلام لا تبعد كثيراً عن هذا الواقع، وإن كانت بعيدة كل البعد عن الإسلام في «صحيح تنزيله»، و«قويم تأويله».
ولا تبدو المشكلة في حقيقة أن المسلمين ينظرون للإسلام من واقعهم المعيشي المهزوم، فهذه سنة طبيعية واجتماعية، ولكن المشكلة تبدو في حقيقة اعتقاد المسلمين اليوم أن ما قاموا بإعادة إنتاجه يتطابق تماماً مع الأصل الأول إن لم يكن هو الأصل ذاته، وأن التأويل هو عين التنزيل، وأن «التقشير» السطحي هو «التفسير» العميق. والحقيقة أن ما أعيد إنتاجه هو ضرب من التهاويم النفسية والخطرات الذهنية الأقرب إلى واقع المسلمين منه إلى أصل تراثهم وماضيهم، كما مرَّ معنا.
وهنا تكمن الإشكالية! إذ أنه عندما تتم إعادة الإنتاج بهذا الشكل فإن الأمر يلتبس على الكثير، إذا يعتقد (هذا الكثير) أن ما أعيد إنتاجه هو الأصل، ولأنه أنتج بطريقة مشوهة، فإن الهجوم ينصب على الأصل الأول بسبب من ها المُنتَج الملتبس.
الحقيقة أن عمليات التأثر والتأثير بين النص/المقدس والمتلقي/المتدين لا تنتهي، ولكن طبيعة هذه العمليات، وظروف الإنتاج، وملابسات التأويل، هي التي تجعل منها «موتيفات» بناءة، أو «ثيمات» هدامة.
النص دون متلقيه هو فضاء عائم، منفتح على التأويل، والمتلقي هو الذي يعطي النص حياته الواقعية، سلباً أو إيجاباً، بناء على ظروف هذا المتلقي السيكلوجية ومنطلقاته الأبستمولوجية، ويحدث أن يُلقي المتلقي على النص واقعه النفسي والذهني المشوَّه، لينتج تأويلاً مشوّشاً يرتد على النص الأصلي بمزيد من التشويه والاضطراب. والمشكل أن هذا التأويل المشوش للنص يصبح بمثابة التأويل الوحيد والحصري للنص، بل يرقى إلى مستوى النص، وأحياناً يحل محله في التصرفات والسلوك، والعمليات الذهنية والنفسية والمرتكزات البعيدة في اللاوعي واللاشعور.
وهنا يمكن القول إن كثيراً من الدوائر الإسلامية تنطلق من منطلقات أن خلاص المسلمين الروحي، وتقدمهم المادي، وتطورهم الفكري يكون بالرجوع إلى الإسلام، ولكن في صيغة ترى أن الإسلام وصفة تفصيلية جاهزة لحل جميع الإشكالات الحضارية التي يواجهها المسلمون. والحقيقة أننا عندما نقول بأن حلول مشاكلنا تكمن في الإسلام مع تعطيلنا لأدوات اجتراح هذه الحلول، فإن قولنا ذلك لا يعد أكثر من انعكاس لـ «خمولنا الذهني» الذي يشبه حال طفل صغير يريد من أمه أن تقدم نيابة عنه حلولاً لمشاكله مع إخوته، ومع أبناء الجيران كذلك. وإذا كان الطفل الصغير معذوراً في اعتماده على أبويه، فإن المسلمين اليوم- وإن كانوا يمرون بـ «طفولة حضارية»- غير معذورين في ظنهم أن بإمكانهم إنتاج تأويل مشوه من الإسلام ليقفز بهم إلى الريادة الحضارية، وليستعيد لهم أمجادهم الغابرة.
المقدمات الخاطئة تعني نتائج خاطئة، والبحث عن حل لدى تأويلات خاطئة لن يزيد المسلمين إلا مزيدا من التراجع واجترار الأوهام.
نعود للتأكيد على أن واقع المسلمين اليوم هو الذي يؤثر في الإسلام وليس العكس. هذا الواقع المرضي المنطوي على جراحات في الذاكرة التاريخية، وإخفاقات في الواقع المعاصر يلقي بظلاله الكثيفة على فهم المسلمين للإسلام، ويساعد على إنتاج متوالية من التصورات المغلوطة التي تُقدَّم للمسلمين اليوم وللعالم على أنها هي الإسلام، الأمر الذي يراكم اليأس، ويمعن في خلط الأوراق وتشويه الأصل الأول، بالنظر للفرعيات على أساس أنها أصول ثابتة، في حين يتم تغييب تلك الأصول في غبار المعارك المحتدمة بين الفروع ومن أجلها.
وهنا يمكن إعادة طرح المقاربة في صيغة السؤال الجارح: أين تكمن الإشكالية؟ هل هي في أثناء نص الدين، أم في تلافيف عقل المتدين؟
إن «المتدين الإيجابي» يُخرج من النصوص طاقتها الإيجابية لينطلق بها إلى مديات إعجازية، وينظر للدين باعتباره محفزاً عظيماً نحو فضاءات الحرية الفكرية والخلاص الروحي، والسلام النفسي والاجتماعي، فيما «المتدين السلبي» يعكس طاقته السلبية على النصوص ليحيلها إلى مجموعة من القيود الروحية والذهنية والشعورية التي تراكم المآزق والإشكالات.
المتدين الإيجابي يرى – على سبيل المثال- أن «الجهاد» هو المرادف الحقيقي لمفهوم «الدفاع عن النفس»، فيما المتدين السلبي يرى في الجهاد وسيلة لـ «إرهاب» المدنيين للضغط على الحكومات والشعوب. وهنا يتجلى الفرق بين «مُتدينَيْن، لا الخلاف بين «دِينَيْن»، هما في الأصل دِين واحد.
ختاماً، يجب الاهتمام برعاية العقل – معمل إنتاج الأفكار- لكي نتحصل على التأويل المناسب، لأن الدين السليم في العقل السليم.
وللتذكير فقط، يقول المتنبي:
ومنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يَجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالا
*القدس العربي